وعلى الرغم من أن تحليل الخطاب لا يسعى كثيرًا للبحث فيما وراء السطور للوصول إلى الدلالات الخفية أو العلل الحقيقة بقدر ما يسعى إلى تفكيك الخطاب ومعرفة أنظمته إلا أن كشف مراميه الحقيقية جزء من اهتمامات تحليل الخطاب وتحليل الخطاب النقدي. إنني بهذا الحد من النظر إلى عمل الغذامي أستطيع بكل سهولة إخراجه من الدراسات الثقافية وإدخاله في منظومة تحليل الخطاب النقدي، وفي المستطاع جعله أول محاولة لنظرية عربية في تحليل الخطاب النقدي اعتمدت على جهازها الاصطلاحي والمفاهيمي المستعار من مصطلحات اللسانيات والبلاغة ولكن يحول دون ذلك عدة أمور تجعل عمل الغذامي في النقد الثقافي غير مندرج في تحليل الخطاب النقدي وهي كالتالي: (أ) التصريح الواضح بمستندات النقد الثقافي وهي الدراسات الثقافية وقد سبقت الإشارة إلى الفرق بين الدراسات الثقافية وتحليل الخطاب. (ب) الاضطراب في مفهوم النص والخطاب وما ليس بنص ولا خطاب في النقد الثقافي يجعل مسألة جعله في دراسات تحليل الخطاب أمرًا غير صحيح. (ج) في معالجات النقد الثقافي وفي شواهده يغيب مفهوم النص كما يتبعثر مفهوم الخطاب مما يؤدي إلى الاعتماد على الأمثلة والأبيات المفردة واجتزاء بعض النصوص أو بعض الأقوال من سياقاتها فضلًا عن خلط الخطابات الأيديولوجية لتؤدي إلى هدف أو فكرة محددة سلفًا عند المحلل، وهذا بعيد عن النصوصية وعن تحليل الخطاب من جانب، وبعيد عن الموضوعية؛ لأن جميع الأنساق المضمرة هي من صنع المحلل وفي الإمكان صنع أنساق مضمرة من محلل آخر، وتعدد النتائج يؤدي إلى عدم الثقة في النظرية وجهازها المصطلحي. (د) إن التشابه فيما بينهما في دراسة الخطابات لا يعني الاتفاق في المناهج فمناهج تحليل الخطاب وتحليل الخطاب النقدي أكثر تماسكًا وأكثر رصانة من ممارسات أو اهتمامات الدراسات الثقافية ومنها النقد الثقافي سواء أكان بمفاهيم ليتش أم بمفاهيم الغذامي. (ه) أن الاشتراك في مفردة (النقد) لا يدل على تماثل بين تحليل الخطاب النقدي والنقد الثقافي، فالنقد الثقافي هي ممارسة ثقافية لدراسات الخطابات تعتمد على مقاربات مختلفة في حين أن تحليل الخطاب النقدي يمثل مدرسة في تحليل الخطاب تقوم على الانطلاق من لسانيات النص لتحليل الخطابات المختلفة مع الاستعانة إضافة إلى المنهج اللساني في الدراسة بعدة مناهج مختلفة لإدراك الظاهرة الاجتماعية من خلال اللغة التي تتمثل فيها أهم الظواهر البشرية في صورة خطاب. (و) أن منهج النقد الثقافي في التحليل لم يعتمد على التداخل فيما بين الاختصاصات كما هي طبيعة الدراسات الثقافية، وكما هي طبيعة تحليل الخطاب النقدي وإنما اعتمد على استعارة بعض المصطلحات من اللسانيات ومن البلاغة وتغيير مفاهيمها، وهو بذلك لم يحقق شرط الدرس الثقافي كما أنه لم يحقق شرط درس تحليل الخطاب النقدي لأجل ذلك جاء الجهاز المصطلحي فضلًا عن نظرية النقد الثقافي برمتها غاية في الضعف وفي البدائية وشبيهة بما يقدم من دراسات عربية في دراسة الثقافة قبل ظهور الدراسات الثقافية أي مجرد تجميع لمعلومات وآراء والاستعانة بأقوال وشواهد غربية لتكون عونًا في دراسة الظاهرة مع ضعف في المنهج وفي الأجهزة المصطلحية وغياب شبه تام لشروط النظرية ولفكر النظرية الإبداعي أو حتى لبناء النظرية المنطقي، ولأجل ذلك فقد كان الجهاز المصطلحي ساذجًا ومبتذلًا ومتداولًا كنوع من الأدوات المساعدة على وصف الواقع الفكري العربي في دراسات ما بعد الاستعمار أو الدراسات الثقافية العادية عند مالك بن نبي قبل أن تظهر الدراسات الثقافية بمفهومها كصيرورة في حراك تنظيري غربي. (ز) أن نظرية النقد الثقافي لم تقم على اللسانيات بمفهومها التداولي كأحدث تشكل للنظرية اللسانية في أفعال الكلام وفي لسانيات النص، كما أن جعل النسق الثقافي كعنصر مضاف إلى عناصر الاتصال في نظرية جاكبسون في الاتصال اللغوي لا يبرر إلحاق هذا النقد الثقافي باللسانيات، لأن هذا النسق ليس جزءًا من وظائف اللغة بقدر ما هو أداة منهجية خارجية للتحليل يمكن الوصول إليها عن طريق الوظيفة المرجعية التي تركز على السياق والوظيفة المعجمية التي تركز على الشفرة، ولأجل ذلك فإن الجانب اللساني ضئيل جدًا بخلاف الجانب النقدي الجمالي الذي تمت استعارة مفاهيمه لمقاربة النسق، وهذا يباعد ما بين النقد الثقافي وتحليل الخطاب أو تحليل الخطاب النقدي. (*) جامعة الباحة