نأتي إلى المفهوم الخامس، من جهاز المفاهيم لدى الغذَّامي (انظر الجزء 4)، وهو أنَّ مؤلِّف النسق المضمر هو الثقافة، ومستهلك نصّه النسقي هم جمهور الثقافة، فأذكِّر القارئ بما سبق نقله عن مالك بن نبي في الجزء الخامس؛ ممَّا يكشف منبع هذه الفكرة، وممَّا قاله في سياق حديثه عن الذات الخفيَّة المريضة التي أَطلَق عليها: «إنسان ما بعد الموحِّدين»، وعن تشكيلها الخفيِّ لتفكيرنا الجمعيِّ، وإحساسنا الجمعيِّ، وسلوكنا الجمعيِّ ما يلي: «إذا نظرنا إلى هذا الوضع نظرة اجتماعيَّة وجدنا أنَّ جميع الأعراض التي ظهرت في السياسة، أو في صورة العمران لم تكن إلاَّ تعبيرًا عن حالة مَرَضيَّة يعانيها الإنسان الجديد، إنسان ما بعد الموحِّدين، الذي خلَف إنسان الحضارة الإسلاميَّة، والذي كان يحمل في كيانه جميع الجراثيم التي سينتج عنها في فترات متفرِّقة جميع المشكلات التي تعرَّض لها العالم الإسلامي منذ ذلك الحين، فالنقائص التي تعانيها النهضة الآن يعود وزرها إلى ذلك الرجل، الذي لم يكن طليعة في التاريخ، فنحن ندين له بمواريثنا الاجتماعيَّة، وبطرائقنا التقليديَّة التي جرينا عليها في نشاطنا الاجتماعي، ليس ذاك فحسب؛ بل إنَّه الآن بين ظهرانينا، وهو لم يكتفِ بدور المحرِّك الخفيِّ الذي دفعَنا إلى ما ارتكبْنا من خيانة لواجبنا، وأخطاء في حق نهضتنا؛ بل لقد اشترك معنا في فعلنا؛ لم يكتفِ بأن بلّغنا نفسه المريضة التي تخلقت في جو يشيع فيه الإفلاس الخلقيّ والاجتماعيّ والفلسفيّ والسياسيّ؛ فبلَّغنا ذاته أيضًا» (وجهة العالم الإسلامي 32). ويقول عن هذا الإنسان المريض المحرّك الخفيّ لثقافتنا: «إنسان ما بعد الموحِّدين في أيَّة صورة كان، باشا، أو عالمًا مزيَّفًا، أو مثقفًا مزيَّفًا، أو متسوِّلاً؛ يُعتبر بصفة عامَّة عنصرًا جوهريًّا فيما يضمُّ العالم الإسلامي من مشكلات، منذ أفول حضارته» (السابق 33)، فاختطف الناقد النَّسقي هذين النصَّين وأمثالهما، وقلَّبهما في عجلة، وعصرهما، فخرجت العصارة في شكل عنوان، أو ترجمة تقول: «الثقافة هي المؤلف النسقي/المضمر للنصِّ النسقيِّ»، وجعل ذلك ابتكارًا من ضمن ابتكاراته فيما سمَّاه النقلة النوعيَّة في المصطلح!! (انظر: النقد الثقافي 75). ونلحظ هنا التشويه الناشئ من اختطاف الفكرة واعتسافها؛ فابن نبي يتحدَّث عن ذات خفيَّة، يصفها بأنَّها دافعة لذواتنا الواعية، وفاعلة لنشاطاتنا الاجتماعيَّة، وهو يقصد بهذه الذات المريضة ما وضَّحه مرارًا في الكتاب المذكور، وغيره من كتبه ما سمَّاه «قابليتنا للاستعمار»، وهي الجانب المريض في ثقافتنا لا ثقافتنا بإطلاق، فأصبحت الفكرة بعدما اختطفها صاحبنا هكذا: «الثقافة هي مؤلِّفة النسق المضمر»، في حين أنَّ الفكرة لدى ابن نبي إذا عرضناها بأسلوب السارق نجدها هكذا: «النَّسق المضمر هو مؤلِّف الثقافة» ! وهذا شاهد آخر يُضاف إلى الشواهد التي بيَّناها في الجزء السابق، الدالة على العبث، والتشويه الذي يسببه الفكر القائم على الارتزاق من أفكار الآخرين بالاختطاف، وإعادة التشكيل بالاعتساف، إلى درجة تجاوزت التلفيق غير المنسجم كما رأينا فيما سبق إلى قلب الفكرة رأسًا على عقب، كما نرى هنا!! وكأنَّ لعبة الشعوذة اللغويَّة القائمة على محاولة تتويه بصيرة القارئ تنقلب على صاحبها، فيقول الشيء ونقيضه، دون أن يشعر! وكأنَّنا أمام ضرب من انتقام الأفكار المسروقة، قياسًا على ما سمَّاه ابن نبي: «انتقام الأفكار المخذولة»! (عبَّر ابن نبي بانتقام الأفكار المخذولة عن قانون من قوانين مرض الثقافات، وتدهور الحضارات، فانظر: مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي 153، 160). ومن نصِّ ابن نبي أعلاه، ومن أمثاله اختطف الغذَّامي أيضًا المفهوم السادس من مفاهيم مشروع الأنساق المزعوم، وهو «الأنساق المضمرة تاريخيَّة أزليَّة وراسخة، ولها الغلبة دائمًا»، ومن نحو قول ابن نبي (سبق نقل بعضه في الجزء 5) مصوّرًا تاريخيَّة النَّسق المضمر المريض، ورسوخه، وتأثيره العميق: «ليس من قبيل المصادفة أن نرى الحاوي يجمع حوله الأطفال في سمرقند، وفي مراكش، وهو يلوِّح لهم بثعابينه، إنَّ معنى هذا أنَّ مشكلة العالم الإسلامي واحدة، لا أقول في أشكالها السياسيَّة، أو العنصريَّة، وإنَّما في جوهرها الاجتماعيِّ. هذا الرأي يتيح لنا، بل يفرض علينا وضع المشكلة في نطاق التاريخ، وعليه فليس من باب اللعب بالألفاظ، بل من الضرورة المنطقيَّة أنْ نقرِّرَ هنا أنَّ العالم الإسلامي لا يعيش الآن في عام 1949م [زمن تأليفه الكتاب]، بل في عام 1369م [زمن ابن خلدون، بعد انتهاء مرحلة الموحِّدين]» (وجهة العالم الإسلامي 30)، ففكرة التجذُّر التاريخيّ بيِّنة هنا جدًّا في كلامه، فهو يجعلها خصيصة أصيلة من خصائص الذات الخفيَّة المتحكِّمة في تفكيرنا، والمحرِّكة لنشاطاتنا. ويقول في موضع آخر متحدِّثًا عن جدليَّة الصراع المرضي بين ما سمَّاه «الأفكار الميِّتة» (= أفكار الذات القابلة للاستعمار مبتوتةً عن جذورها الأصليَّة)، و»الأفكار المُمِيتة» (= الأفكار المقتبسة من المستعمِر مبتوتةً عن جذورها الأصليَّة)؛ يقول: «ومن الواضح أنَّ تلك الأفكار [يقصد الأفكار الميِّتة] لم ترَ النور في باريس، ولندن، وعلى مدرجات السربون، أو أكسفورد، ولكن في فاس، والجزائر، وتونس، والقاهرة. لقد وُلدت في ظل مآذن القيروان، والزيتونة، والأزهر خلال ما بعد الموحِّدين، وإذا هي لم يُقضَ عليها بجهد منظَّم، فإنَّ جرثومتها الوراثيَّة تلغِّم البنية الإسلاميَّة من الداخل، وتخدع حوافزها الدفاعيَّة» (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي 148)، وفكرة التجذُّر التاريخيّ الداخليّ واضحة هنا أيضًا، ولكن، وكديدن المختطِف المعتسِف، تشوَّهت الفكرة المسروقة على يديه من كونها «تاريخيَّة عموميَّة راسخة» إلى كونها «أزليَّة»!! وكونها «لها الغلبة دائمة»!! وليت شعري إذا كان النسق المريض بالغًا من حتميَّة الغلبة مستوى المحاصرة الوجوديَّة لرعيَّته الثقافيَّة بين قطبي الزمن المعبِّرِ أحدُهما عن أقصى لحظات الماضي (الأزل)، فيما يعبِّر الآخر عن أقصى لحظات المستقبل (الأبد)، فما معنى نقد هذا النَّسق وتجليَّاته في الثقافة؟! ومَن العاقل الذي يدعو إلى مجابهة حتميَّة الطبيعة التي هي روح العالَم وقوانينه القاهرة؟! والحقُّ أنَّ النَّسق المريضَ الكامنَ في ذاتنا الخفيَّة هو -حسب ابن نبي- تاريخيٌّ متجذِّرٌ، وعموميٌّ، وقويُّ التَّأثيرِ، على ما رأينا في نصوصه المنقولة هنا، ولكن ابن نبي لم يصل إلى درجة من الثرثرة الفارغة، بل المحالة يصف فيها هذا النسقَ المضمرَ بمثل ما وصفه السارق المزوِّق من أنَّه أزليٌّ أبديٌّ غالبٌ دائمًا، ومع ذلك يدعو إلى نقده وعلاجه!! ولكن هكذا تفعل اليد المتعيِّشة على الاختطاف من جيوب الآخرين؛ فهي تجمع من كلِّ شكلٍ ولونٍ، وتجمعُ في خرجٍ واحدٍ بين النظيرِ والنقيضِ، فهي أبعد ما تكون عن الإبداع، لأنَّها مشغولة بالانتزاع!!