كل مطالع لتاريخ الجزيرة العربية سالم الفكر من الأهواء والأدلجة سيدرك أن انتظام الجزيرة العربية تحت كيان واحد على يد الدولة السعودية الأولى بعد غيابه عنها منذ نهاية الدولة العباسية هي نعمة من الله تستوجب شكر الله تعالى والمحافظة عليها، فالتراجع الحضاري في الجزيرة العربية الذي صاحب غياب الكيان فيها بعد نهاية الدولة العباسية لقرون متعددة، وتشظي المجتمع وانقسامه إلى ولاءات ضيفة، وعصبيات ونزاعات وصراعات، وغياب للمقاصد الرئيسة للنظم السياسية، وتبدل ثقافة المجتمع ومفاهيمه تبعاً للحالة السياسية في تلك الفترة، فأصبح التفاخر والمباهاة ليس بالإنجازات العلمية والإنسانية والتطور والرقي، وإنما في انتهاب ممتلكات الآخرين والاستيلاء عليها بالقهر والقوة. والقارئ للتراث الشعبي من القصائد والروايات قبل تأسيس الدولة السعودية الأولى يلاحظ التباهي والتفاخر بهذه الثقافة، مما يؤكد على العلاقة الطردية التالية أنه متى وجد النظام السياسي القوي السليم فيؤدي ذلك إلى التطور في المجتمع بكافة أنواعه الحضاري والإنساني والثقافي وغيره، ومتى غاب النظام السياسي فيؤدي إلى العكس. ومن المهم جدا للجيل المعاصر أن يدرك هذه الفجوة التي كانت بعد نهاية الدولة العباسية وبين تأسيس الدولة السعودية الأولى على يد الإمام محمد بن سعود -طيب الله ثراه-، وأن الله بفضله وكرمه امتن على هذه البقعة الجغرافية بتأسيس هذه الدولة المباركة، وجَعل أمر الحكم والملك فيها لهذه الأسرة المباركة، فلم يتأت لأحدٍ قبلهم أن يجمع الناس بعد تشتتهم وتنافر قلوبهم وأبدانهم، وذهاب أمرهم وتناحرهم. ولقد شاء الله سبحانه لهذه الأرض الجزيرة العربية أن تعود بعد غياب طويل، وتواصل دورها الديني والحضاري، وتخوض مخاضاً طويلاً في جمع الكلمة ونبذ الفرقة والجهل، وتصحيح الاعتقاد ونبذ الخرافات والضلالات، والرقي بالإنسان وبالكيان إلى مدارج الحضارة على يد مؤسس الدولة السعودية الأولى، وأجرى على يديه وذريته وأسرته أعظم الإنجازات وأهمها وهي انتظام أمر الجزيرة العربية تحت كيان واحد. إن قصة تأسيس الدولة السعودية الأولى هي أمر أشبه بالمعجزة، وتحول الناس من أشتات وجماعات إلى مجتمع واحد، وهوية واحدة، وكيان واحد يجمعهم وينظم أمورهم، وتحول ثقافة الأفراد من الفوضى إلى ثقافة الولاء والانتظام، فنالها بذلك من الحسد والمكائد والدسائس والحروب الحاقدة من القريب والبعيد، وأراد الشانئون لها إطفاء شعلتها وطمس معالمها، لكن الله سبحانه وتعالى أبى إلا أن يتم أمرها. يقول المؤرخ (منير العجلاني) في كتابه "تاريخ الدولة السعودية الأولى": "يمكننا القول أن الفترة التي تمتد من القرن الرابع حتى ظهور الدولة السعودية الأولى كانت فترة مضطربة في حياة نجد، فلم تقم فيها أية إمارة قوية...كما أن بلاد نجد واليمامة، على كل حال، بقيت حرة من النفوذ الأجنبي، فلم يدخلها جنود الترك ولا غيرهم". وتصف الرحالة (الليدي آن بنت) الدولة السعودية الأولى بقولها: "إنها أول دولة عربية، تنشأ بعد عصر الرسول، وتوحد تحت رايتها جزيرة العرب على أساس من الشرع والتنظيم الإداري المحكم".