الناقد السعودي «عبدالله الغذامي» أشهر من أن يعرّف، بعد أن أصبح اسمه على كل لسان في العالم العربي، فهو أول من تجرأ على ادخال مصطلح الحداثة إلى الساحة الثقافية في مواجهة مجتمع محافظ يدافع عن السلفية، ويحافظ على مؤسساته ومنطلقاته الفكرية التقليدية، ويرفض الجيد في موقف استباقي، ويعطل حركة الفكر ويصادرها، فمنذ أن أصدر كتابه (الخطيئة والتكفير) الذي حرّك الراكد الساكن في الثقافة التقليدية واجه «الغذامي» من سدنة النسق الثقافي المحافظ حملة عنيفة لا يقوم فيها الحوار بين دعاة الحفاظ والتحديث على أساس موضوعي وعقلاني. فنال الباحث «الغذامي» من خصومه من التجريح والطعن ما تجاوز حدود الجدل الفكري إلى الإساءة لحقوقه الإنسانية، والطعن بمعتقده الديني وتكفيره، ولم يوفّر النسق المحافظ أسلحته المألوفة التي يحارب بها الخارجين على هذا النسق، وهي متنوعة الأشكال، فاتهم بأن كتابه منحول، وأنه يروّج لفكر معادٍ تحاول الصهيونية من خلاله تقويض التراث العربي الإسلامي، وحشد المحافظون أنصاراً لهم من الغوغاء، شوهوا سمعة الرجل بما نشروه من أشرطة تسجيلية تؤلب العامة عليه، عن طريق التهويش والشتم، واحتمل الناقد «الغذامي» ما تعرّض له من أذى صامتاً بشجاعة المؤمن بالحقيقة، حتى إذا هدأت المعركة، أصدر كتابه عن حكاية الحداثة في بلده، تتويجاً لما قدمه من كتب تنويرية تدعو إلى تفعيل الفكر وحرية التعبير، وتساير حركتها في العالم، وتكمل مسيرة التنوير بين السعوديين الذين سبقوه ومنهم: «عبدالله القصيمي، وعبدالله عبدالجبار» فكان من أثر نقد «الغذامي» أن حرّك الفكر الساكن في مجتمعه، وكان من أثر هذه المعركة بين القديم والحديث، أن حفّزت الثقافة المحلية السائدة في المجتمع العربي الإسلامي إلى الأخذ بأسباب الحداثة من جوانبها التي تشجع حركة الفكر، وتواكب تطوره، وتغني قيم المجتمع العربي الإسلامي ومعطياته بهذا الحراك الثقافي الذي لا بد أن يقوم مجاراة للتطور ومواجهة المجتمعات النامية لتلحق بركب الحضارة. كانت معركة قاسية وشرسة، تذكر بما واجهه الملك المؤسس «عبدالعزيز» من رفض لدعوته للأخذ بمنجزات التقدم العلمي من بعض المتعصبين الغلاة الذين اساؤوا فهم جوهر الدين الإسلامي الذي يدعو إلى تشجيع العلم واحتراما للفكر والحوار، وقد خرج الملك من هذه المعركة منتصراً، وتحقق للمملكة من ثمار موقفه الواعي ما نشهده اليوم فيها من تقدم. كذلك خرج «الغذامي» من معركة مع غلاة النسق المحافظ منتصراً في معركته مع المحافظين الذين كان لبعضهم مواقع في السلطة أو وجاهة شعبية، واستغلوا هذه المواقع في التأليب على «الغذامي» لكن الزمن أفرز بمجهره الزيف والتشويش، وانتصرت حرية الفكر وحق التعبير عن الرأي، وانحسرت هيمنة النسق المحافظ بأسلحته المختلفة ليتحرر المجتمع العربي عامة والسعودي خاصة من جمود فكري ورقابة تدعي لنفسها حق مصادرة الكلمة، وبدا المجتمع السعودي أكثر انفتاحاً وتقبلاً للحديث إن لم يكن في مسيرته ما يهدد أو يسيء إلى منطلقاته الفكرية والعقائدية. وما زال الناقد «الغذامي» يواصل تأثيل الحداثة في مجتمعه، بعد أن أثار اهتمام الباحثين، فكتب حول دراساته عشرات الأطروحات الجامعية. * * * يعتبر الدكتور «عبدالله الغذامي» أن ما دوّنه من (حكاية الحداثة في المجتمع السعودي) شهادة لا يهدف من ورائها أن يبرز معاناته من الدعوة إلى الحداثة في مجتمع محافظ فحسب، وإنما يقدم من وراء هذه الحكاية ما يلجأ إليه أي مجتمع محافظ من ردود الفعل على الحداثة، ومن حقه أن يفعل ذلك، وبخاصة أن العالم العربي والإسلامي يرى المجتمع السعودي مثالاً للحفاظ، ما يجعله أكثر حساسية وأشد رفضاً للجديد الذي هو قدر مفروض على المجتمعات تحت سنة التطور، مثلما كان الحفاظ في هذا المجتمع قدراً مفروضاً عليه، ولن يتخلص من هذه الجدلية بين القدرين. فلما طرح موضوع الحداثة سافراً في كتبه ومؤلفات غيره من المجددين الذين تناولوا نظريات النقد الحديثة والتشريح الثقافي وإشكاليات المعرفة في نهاية القرن المنصرم واجه هذا الطرح ثورة عنيفة مضادة للتيار الحداثي الذي أعلن عن نفسه، وقامت معركة امتدت إلى الصحف والمجلات ومنابر المساجد وأشرطة الكاسيت، رافقتها حملة تشهير بالغذامي، واتهامات بالخيانة والماسونية والعلمانية، والتشكيك بالدين والوطنية والأمانة العلمية، وهي ردة فعل متوقعة في مجتمع محافظ وتراثي وديني، وانقلب من خلالها بعض مدعي الحداثة الفكرية إلى ألدّ أعدائها، وبعض هؤلاء نادوا بحداثة الوسائل ورفضوا حداثة الأنساق الذهنية، كما برز في دفاع علمين من أعلامها هما (البازغي، والمليباري) فالنزعة المحافظة تعبر عن نفسها بطرق عديدة، تدعو إلى النموذج التقليدي، وتربطه بالدين والوطنية، وتنادي بحداثة شكلية، وتربط الحداثة بفكر مستورد صهيوني، وتخوّن دعاتها، ويرصد «الغذامي» أساليب دعاة الحفاظ بأسلوب موضوعي مثلما يتحدث بأسلوب ذاتي عن معاناته في مواجهة النسق المحافظ. وخرج نقده من المدار المغلق المتخصص إلى أفق أكثر اتساعاً في العالم العربي، بعد أن أغناه ووسّعه تطبيقاً، فتجاوز ما قدمه في كتابه (الخطيئة والتكفير) من دعوة للمنهج التفكيكي أو التشريحي في دراسة الأدب والثقافة إلى آفاق من التطبيق في كتبه (المرأة واللغة) و(النقد الثقافي) وبلغت مؤلفاته ثمانية عشر كتاباً، نال بها تقدير المؤسسات المشرفة على الثقافة والفكر، وحصد عدداً من الجوائز الأدبية والثقافية تقديراً لفكره وإبداعه. وكان مشروع «كتاب في جريدة»* واختيار كتابه عن (حكاية الحداثة) تعريفاً للأجيال بما يعانيه المفكر المؤمن بحرية الفكر من عنت، وما يقدمه من تضحيات في سبيل الحقيقة، ويحتمل الأذى، ويصرّ على هدفه بشجاعة نصرة لحرية الفكر ودفاعاً عن الكلمة في مواجهة الداعين إلى وأدها، وقد نصبوا أنفسهم حراساً للتراث وهم أكثر إساءة له في تحنيطه وتجميده. واستطاع «الغذامي» تحليل الأساليب التي يتخذها المحافظون في ردود أفعالهم على الحداثة، وهي أساليب تمليها طبيعة النسق المحافظ، وتخرج دفاعه من حدود الموضوعية والنزاهة العلمية، كان كتاب «عبدالله الغذامي» وعنوانه (الخطيئة والتكفير) أكثر مؤلفاته رفضاً لرموز النسق الاجتماعي المحافظ، ومن الحداثيين التقليديين، وكُتب عنه الكثير من الدراسات، وتعرضّ المؤلف لهجوم شخصي استهدف سمعته ومعتقده الديني والوطني، وأقيمت ندوات شارك فيها أرباب الفكر والثقافة منهم المعارض للحداثة.. ولم يشأ «الغذامي» من الرد عليهم لما فيهم من غوغائية، وبُعد عن الحوار العلمي المنزّه. ويبدو أن موضوع الحداثة جعل بعض المثقفين يترددون في معالجتها، لما تثيره من أسئلة وحساسية، مع أن عدداً كبيراً من مثقفي السعودية درسوا نظرياتها واطلعوا على اتجاهاتها. كذلك الأمر بالنسبة إلى مثقفي العالم العربي والإسلامي الذين درس جلّهم في جامعات الغرب، لكن أحداً منهم لم يطرح مسألة الحداثة. فإذا أبعدنا العجز الذاتي أو الخوف الرسمي، وهما منفيان عن أغلب هؤلاء المثقفين، كانوا يتّقون إثارة المتاعب لهم، بل جهد أكثرهم في تجنب أي تصريح أو رأي قد يستشم منه أن صاحبه ممن يخرجون على النسق المحافظ، على الرغم أنهم رموز الثقافة وسدنتها، ومن المفروض أن يملكوا شجاعة البحث عن الحقيقة. لكنهم كانوا محايدين أو مجاملين للنسق المحافظ، ومواربين في اجاباتهم كلما سئلوا، يتكلمون بلسان الجماعة وبالنيابة عنها، فالعلن دوماً مشروط على أن يكون مسايراً لرأي الجماعة حتى لو نخالفه في أعماقنا، وهذه الازدواجية بين رؤية الذات ورؤية الجماعة تشبه ملابسنا بين تلك التي هي للخارج (البنطال، وربطة العنق) والتي هي للداخل (العقال، والثوب الطويل) وهؤلاء الجامعيون، كانوا يحذرون «الغذامي» من اللعب بالنار حين يُقدم على القيام بأي نشاط ثقافي يتصل بالحداثة، حرصاً منهم على سلامته. لكنه غامر دون ندم، وصدقت ظنونهم فنال الأذى لكنه ثبت حتى آخر الطريق، وكان ثمن موقفه تضحيات جساماً. إن الانفصام الذي يعانيه المثقف في مجتمع ساكن، يدفعه إلى موقف عام معلن وخاص يحتفظ به لنفسه، وعبر هذا التناول يستعلي النموذج الساكن، ويخضع الفرد لشروط الظن المسيطر. ويتساءل «الغذامي» عن الحل لكسر هذه الازدواجية، وإن ما يتظاهر به المجتمع من تحدث لا يعدو أن يكون حركة لا تحدث حتى وان بدت متحركة، ويقتضي ذلك البحث عن سمات النسق الاجتماعي الساكن، فالساكن الذهني من أهم مرتكزات هذا النسق، وقد تجلى في موقف أهل «مكة» من رسالة الإسلام، إذ حكموا على الدعوة بما عهدوه من مواقف أسلافهم من كل جديد، أي رفض ما يخالف النسق، وهم يستعينون بتسويفات ظاهرها موضوعي وباطنها ضغط النسق عليهم. وتبدأ عملية تشويه الخطاب الطارئ الجديد حسب مقاييس النسق. فقد اتُهم الرسول الكريم بالسحر أو النقل من كتب الأولين، أو التمسك بالأساطير والشعر، ويستند كل نسق محافظ عادة إلى ثلاثة منطلقات ليدافع عن نفسه وهي: - إشهار الجديد على أنه معارض للموروث حتى لو لم يكن يعارضه، والسعي إلى تشويه دعائه، والسعي إلى تشويه خطابهم بإلصاق ما ليس فيه من تهم وتزوير، على أن أهم دواعي هذا الرفض ما يلمسه النسق المحافظ من راحة في سكون الفكر وجموده وخطر تحريكه، فالحركة تعدل الثقل، كما عبرت عنها مصطلحات الخليل العروضية (السبب الخفيف، والسبب الثقيل) إذ جعل الخليل السبب ثقيلاً لأنه متحرك، فالسكوت تثبيت وتكريس لجاهلية تستمر في حياتنا وثقافتنا عبر الزمن في مواجهة التغير المفروض علينا. من هذا المنطلق، بدت معارضة رموز النسق المحافظ للحداثة، فهم يملكون عنها تصورات شخصية موروثة دون أن يملكوا تعريفاً لها، وإنهم يرون فيها خطراً يهدد أمن الجماعة واستقرارها، ولذلك برز في كتبهم ومنشوراتهم التي ترد على دعوة التحديث خطرها على الأمة ومعتقداتها وقيمها، وهذا الحس التخويفي دفع بأصحابه بما أنه خوف على المستوى الشخصي والعام إلى شحذ كل قواهم، دون أن يفطنوا إلى الشرط المنهجي الذي ينطلق منه الحوار، وهو تعريف الحداثة. ولو تابعوا تعريف الحداثة في الأدبيات المعاصرة، لتبيّن لهم تعريفات متعددة تبلغ أحياناً حدّ التناقض، وسيقبل هؤلاء ببعض تعريفاتها التي ترى فيها ارتداداً للأصول وليست إلغاءً لها، إذا لم يقبلوا بها خروجاً عن النمط التقليدي السائد، فهذا «إليوت» نفسه يرى في الحداثة ارتداداً إلى الجذور ورفضاً للجديد. إن غياب تعريف ذهني للحداثة لدى هؤلاء دفعهم إلى تصورات ظنية عن الحداثة، فاقترن داعيها عندهم بمدى التزامه أداء فروض الصلاة، والزكاة والبر بالوالدين، وإفشاء السلام بين الناس، والحكم على ذلك الداعي بسلوكه الخارجي لا بتقويم ما يدعو إليه، بسبب غياب المنهج واستسلامهم إلى الظنون بدل المفاهيم.. ويؤكد الناقد «عبدالله الغذامي» أنه طرح تعريف الحداثة منذ عام 1986م، وأبان أنها التجديد الواعي، وعي التاريخ والدور والمرحلة، فلكل عصر حداثته بحكم التطور، كما أن مفهوم الحداثة في السعودية بدا جلياً منذ عهد التأسيس، وهو الانتقال من طور المجتمع البدوي والريفي إلى طور المجتمع المدني الموحد بالمنجزات العلمية، ومنذ عهد التأسيس، استهدف التطوير تحضير البدو، وهو فكرة حضارية لازمت تحوّل المجتمع من مجتمع القبيلة إلى مجتمع الدولة، لكن البداة بنوا لأنفسهم مدناً تلائم نمط تفكيرهم وتطلعاتهم وأعرافهم، وفي عهد تأسيس المملكة لم ينسجموا مع مجتمع الدولة ونظامه، فكانوا يعارضون مساعي الملك التحديثية، وسموا أنفسهم بالإخوان، لذا جاءت فكرة إنشاء الهجرة وهي مجتمعات مدنية تراعي ظروف البداة في النقلة من البداوة إلى المدينة، وأسهمت تلك الهجرة في تحويلهم إلى حضريين يساندون الدولة، ويخدمونها ويتعاملون مع آلياتها، وقد تحرروا من نزعة المعارضة للجديد، والتمرد عليه. كانت هذه خطوة حداثية وإن لم يتسع بعد مفهوم الحداثة، وطبّق عملياً في بناء المجمعات السكنية الحديثة، وتأسيس نظم الادارة وإقامة علاقات مع الدول الأخرى، وهي علامات لشروط قيام الدولة العصرية. ويروي أن الملك المؤسس عدّل في نص بيت كتب في بهو قصر المربّع، يقول: نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثلما فعلوا وكان أن طلب الملك عبدالعزيز تعديل الشطر الثاني ليصبح: (ونفعل فوق ما فعلوا) مما يعكس وعيه، ورفضه نمط المجتمع الساكن، الذي يقف عند حدود ما فعل السلف، فلا يضيف إليه، لأن ذلك اللاحتذاء يعد تقليداً بينما يطمع بمشروع تأسيسي يتجاوز النمط السائد، فكانت الهجر بدل تسميتها هجرة وانتقالاً من نمط قائم إلى نمط تحديثي جديد، وتحولت حياة البدو من الترحل عن المكان الذي لا يمكن ارتباطهم بالأرض، إلى إقامة قارة تفرز انتماء الإنسان لوطنه.. * * * الحداثة في مواجهة النسق المحافظ: ويتكرر المشهد ذاته بعد أن قوي التيار المؤيد للحداثة عن الشبان، ومنهم: (سعد الحميدين والدميني، وأحمد صالح، وفوزية أبوخالد)، فيصبح لها صدى في الصحافة، وكانت مناهلها تواكب تطور القصيدة العربية، ونقلتها إلى شعر التفعيلة مما أوجد حراكاً أدبياً لفت الأنظار، وزاد غيظ المحافظين ما لمسوه من إقبال الشبان على محاولات شعرية تجريبية شوّهت فكرة الحداثة، واتخذت سلاحاً لتحريض المجتمع، لكن بعض شعراء الحداثة ممن ملكوا ثقافة لغوية متينة، ثبتوا أمام ردّة المحافظين الذين استهدفوا في البدء الشعر الحر، وأدخلوا المجاز الجديد والرمز في قصائدهم التي نشروها في صحف ومجلات كانوا مشرفين على زواياها. وأصدر الشاعر «سعد الحميدين» ديوانه (رسوم على الحائط)، وتلاه «أحمد الصالح» بديوان (عندما يسقط العراق) فبدت محاولاتهم جادة ومصرة على التحديث، ثم ظهر «غازي القصيبي» ممثلاً للتجديد الفني والنقد الاجتماعي والاداري، فكانت معاركهم مع الصحفيين تحظى باهتمام كبير، فأحدث حراكاً أدبياً بدا تحدياً للنسق المحافظ الذي راح يبحث عن حراسه، فظهر «علي العمير» وتصدى لشعراء القصيدة الحديثة، واتهمهم بالعجز عن الكتابة الشعرية الكلاسيكية، وضعف كفايتهم اللغوية، وزاد الأمر حدة اهتمام المؤسسات الأكاديمية بشعر هؤلاء الشبان وإعداد أطروحات اكاديمية عن محاولتهم، وتلا جيل الحداثيين الماهد شعراء شبان وشاعرات حداثيات، وعدد من نقاد الحداثة في الصحف والمجلات والأندية الأدبية، وقامت حملة واسعة لترويج قصيدة الحداثة في الأمسيات الشعرية والصحف، لكن هذه الحماسة سرعان ما خمدت وانطفأت. كأن المسعى لم يكن جدياً، وأنه نشاط ظرفي يتصل بالشعر حصراً دون أن يشمل مختلف مناحي الحياة، فكان خمود الحداثة نكسة، ولم يرافق ما قدمته من ابداع نقد حداثي معرفي ومنهجي. بل أمسى الخطاب الثقافي النسوي خطاباً في الحداث الاجتماعية، لكنه خطاب يجمع بين الافصاح والالماح، واللغة بين اللغتين. * * * الغذامي وطفرة النفط: لمس «الغذامي» آثار طفرة النفط من خلال تحوّل الناس البسطاء الذين كان يعرفهم إلى أصحاب أعمال يحملون الحقائب السود، ويرتدون النظارات، ويحمون سطر مدينة «لندن» وسواها لمتابعة أعمالهم التجارية وأرصدتهم في المصارف العالمية، وتبدلت أخلاق الناس وقيمهم، ونمط عيشهم في مساكنهم بل قصورهم، وانفتح المجتمع السعودي على البعثات العلمية، ودخل البيت أعراف وبدع لم تكن مألوفة، يُديره الخدم ويرعون الصغار، وانحسر دور الأب والأم، في هذه الطفرة، وشاع التقليد والمحاكاة في السيارة والبناء والتأثيث ومظاهر الأفراح في الأعراس، وحدثت القطيعة بين الأطفال والأبوين بعد تقلص دورهما في الرعاية المنزلية. كانت الطفرة في جوهرها مادية أملاها ارتفاع سعر النفط، وضمن للمجتمع وفرة المال، واستشرت المضاربات وتجارة العقارات، وبدا كل شيء مقترناً بسرعة الانجاز واندفاع المدنية المحموم. كما بدا إنسان الطفرة مادياً وذاتياً ونفعياً، لغته وتعامله هو لغة الشوق والأخذ والعطاء، وضحاياه هم الأبرياء من البسطاء الذين لم تطلهم طفرة النفط، وترتب على ذلك نمط جديد مشوّه من الناس همهم الربح السريع، ولم يعد الكدح أو العمل سبيلاً للكسب بل المراهنة والمغامرة، وبدت حداثية طفرة النفط زائفة غير واقعية ولا عقلانية. ورافق ذلك طفرة الثقافة والبعوث التي نشطت إلى الخارج لهدف علمي أو تدريبي، ومنحت تسهيلات كثيرة حتى أعفي مبعوثها أحياناً من شروط القبول. فبدت هذه البعثات تزجية فراغ وسياحة أكثر، مما هدمت التحصيل العلمي والتقني، وتطبع هؤلاء وأسرهم بنمط الحياة الغربية ونقلوها بعد عودتهم إلى بلدهم، وما رافق ذلك من تحولات حداثية تتصل بالانفتاح على العالم والآخر، وانكسار جدار العزلة. ويلاحظ «الغذامي» أن مفهوم الحداثة ظل مقصوراً على الشعر دون أن يتحول إلى وعي اجتماعي ومتغير ثقافي يمس صيغ الحياة، وأسهمت الملاحق الأدبية أو الملحقات في تعزيز هذا الوعي الحداثي. ومجهودات بعض كتاب الرواية والقصة في السعودية، ودور البرامج التلفازية. واهتمامها بنقل وتقديم رموز الحداثة في مصر وبلاد الشام، لكن هذه المساعي لم تخلخل النسق المحافظ.. ولم تحدث أي ردود فعل مضادة، باستثناء إعدام قصيدة النثر التي تم تجاهلها، ولم يتجدد ظهورها في الأدب السعودي إلا بعد الثمانينيات من القرن الماضي، كذلك القصة القصيرة التي لم تتعرض لأي رد فعل نسقي مضاد، ومثل ذلك النقد الاكاديمي الذي ظل محافظاً في جوهره.. وقد أسهم ظهور المرأة المثقفة السعودية، ودعوتها إلى تحرير المرأة على صفحات الجرائد، وتزامن ظهورها مع طلائع تعليم البنات في المملكة، ما شجع الفتاة على الكتابة ومتابعة قضايا المرأة في وسائل الإعلام، وممارسة الكتابة الشعرية. كان تعليم البنات حدثاً اجتماعياً هاماً، إذ كسر القيود والأعراف السائدة في حياة الفتاة بالبيت، وأخرجها إلى دائرة العمل والثقافة إلا انه انفتاح لم يقو على تبديل النسق المحافظ، فقد ظل المثقف السعودي يعيش في شروطه وإن كان يستخدم في ممارساته بعض مصطلحات الحداثة باستثناء شريحة محدودة حاولت أن تقيم صوراً من الحداثة في الأدب والفكر دون أن يتسم موقف أفرادها بالازدواجية أو المراوحة بين الثقافتين، أو يحمي المثقف نفسه بتبني حداثة شكلية دون أن يجرؤ على اقتحام الأسوار الحصينة لحراس النسق المحافظ، ولن تتكشف أشكال هذه الحداثة في العالم العربي الإسلامي إلا بنقد ذاتي متعمق للأنساق وأساليب حركتها، وهو ما دعا إليه «الغذامي» بعنوان (النقد الثقافي). ويذكر «عبدالله الغذامي» أن مصطلح «الطفرة» تعبير شعبي هو الوجه الآخر لمصطلح «التنمية»، والطفرة تشير إلى الجوانب السلبية في التنمية السريعة، وما رافقها من تبدل سريع له مخاطره، وهو مصطلح يكشف عن تخوف النسق المحافظ الذي يؤثر السكون، وقاد هذه التنمية أناس غير مختصين بيئيين أو اجتماعيين، فتضاعفت أضرارها المصاحبة على قدر ما أفادت، لكنها تنمية ارتكزت على الوسائل ولم تحدث أي تغيير نوعي شامل كما جرى في «الهند، وكوريا، وماليزيا» وتمت الاستعانة بالأجانب في مشروعاتها على مستوى اليد العاملة والعقل المخطط، فكان التحديث شكلياً مكانياً أكثر منه تطويراً في البنى، ويتحدث «الغذامي» عن الموجة الثالثة من الحداثة، فيسميها الموجة الصدمة، وفجرتها قصيدة الشعر الحديث وما تبعها من نقد لا يمت إلى النقد التقليدي السائد القديم بصلة. وعاش «الغذامي» تحت وابل من الاتهامات المتعددة والهجمات القاسية، لكنه لم يرد على ما ورد فيها من ابتذال، وأساليب يستخدمها قطيع النسق الهائج مدافعاً عن مواقفه وأفكاره، ومنها الترويج للكتب المضادة للخطيئة والتفكير والسعي لتعميمها بين الناس، فكانت حرباً نفسية وعقلية واجتماعية امتدت سنوات عدة، وتحرك فيها النسق الثقافي المحافظ والحداثي ضد المتغيرات المعرفية دون وعي ولا تخطيط، وشارك فيها من كان يدعي لنفسه الحداثة وهو أبعد ما يكون عنها حين تردّه الحقائق إلى مضمره المرجعي، من هؤلاء الدكتور «سعد البازعي» مع أنه مختص باللسانيات ومتخرج في الجامعات الأمريكية، وقد اتهم «الغذامي» في مقالاته بالخيانة الوطنية بسبب دعوته إلى التشريحية والنقد النسوي، دون أن يتهيأ للمشاركة في هذا الجدل العلمي بزاد معرفي عن البنيوية وما بعدها، وعجز عن فهم العلاقة بين النقد النسوي والنقد الثقافي وظن أنهما متناقضان.. وهو في ذلك يمثل نمطاً من الجامعيين المحافظين الذين يحمون أنفسهم من النسق المحافظ بإضمار الفكر الذي درسوه في مواجهة الفكر المحافظ السائد. وهكذا بلغ الأمر برموز هذا النسق أنهم اصطنعوا لهم عملاء وجواسيس يطاردون صاحب الخطيئة والتكفير، ويرصدون حركاته وينقلون لمعلميهم كل بادرة تصدر منه. أجل.. إن معركة «الغذامي» قد انتهت، لكنها تمثل كل يوم في حياتنا على مسرح الحياة، وما دعا إليه «الغذامي» من تشريحية وشق ثقافي ليس دعوة لاجتثاث النسق الثقافي السائد. التشريحية منهج وآلية ومعيار تساعد في الكشف عن بعض السلبيات في نسقنا الفكري وتجاوزها، وترسيخ ما يلائم التطور البناء والملائم لتطلعاتنا وقيمنا الفكرية والروحية، والإسلام يدعو لتحكيم العقل والمعرفة وسعيه لرعاية الكون وفق ما منحه الله تعالى من حرية. ومن هذا المنطلق تنتفي عن النسق المحافظ السائد صنعة القدسية، وحماية التراث الفكري والديني، وسعيه لتجميد الفكر، لأنه بذلك يسيء للإسلام ودعوته وشعاراته، وترتد خطيئة التكفير التي يتخذها سلاحاً له ضده، لأنه يخالف ما أمر به الله تعالى وأقرّه القرآن الكريم. ----------- * «كتاب في جريدة» إشراف مؤسسة اليونسكو.. العدد (125)