كل ما سبق من مقارنة كان خاصًّا بالمفهوم الأول في جهاز المفاهيم لدى الغذَّامي، وهو مفهوم «النسق المضمر»، وهو المفهوم المركزي فيما سمَّاه مشروعه في نقد الأنساق المضمرة. (على أنه من جهة أخرى غَيْرِ قضية السرقة العميقة لم يفهم طبيعة هذا النسق المضمر الذي أقام عليه ابن نبي نظريته في القابلية للاستعمار؛ فهذه الذات الخفيَّة حسب التصور الذي طرحه ابن نبي تعبر عن نسق مريض استثنائي أو غير اعتيادي، فالحالات الصحيَّة هي الأصل بلا شك والمرض عارض، مهما طالت مدته، سواء أكان ماديًّا أم ثقافيًّا، لكن الغذَّامي شوَّه الفكرة حينما جعل النسق عنصرًا أصليًّا من عناصر الاتصال الشهيرة في علم الاتصال، في حين أن العنصر الأصلي هنا هو ما سميّتُه في كتابي نظرية العرف اللغوي: «العرف الثقافي»؛ ذلك العرف الذي يمكن أن يتَّصف بالحالة الصحيَّة المعتادة فيكون متوازنًا، كما يمكن أن تتبطنه حالة الذات الخفيَّة المعتلة بالأمراض المعقدة العصيَّة التي سمَّاها ابن نبي «القابليَّة للاستعمار» فيكون مختلاً، وأطلق الغذَّامي على هذه الحال المرضيَّة بعد اختطاف الفكرة: «النسقيَّة»، وللاستزادة في هذه المسألة خصوصًا يُرجع إلى كتابي المذكور ص 91. فالغذَّامي جمع بين سرقة الفكرة وتشويهها بإساءة فهمها ووضعها في غير موضعها، وسنرى في أمثلة قادمة أن هذا ديدن الغذَّامي؛ وهو الجمع بين سوءتين: سوءة أدبيَّة تتمثل في السرقة العميقة، وسوءة فكريَّة تتمثل في الجهل بمقاصد الفكرة المسروقة ومن ثم تشويهها). وأتناول في هذا الجزء وما يليه بقية المفاهيم. فالمفهوم الثاني «الأقنعة الثقافية» (وهي القيم الجماليَّة التي تختبئ من تحتها الأنساق المضمرة) تحدث عنها ابن نبي من خلال حديثه عمَّا سمَّاه مرض «الشِعْريَّة» الذي سبق الحديث عنه في الجزء السادس، ذلك المرض الذي عرفه بقوله «الشعريَّة تقصد إلى الناحية الجماليَّة وإلى البديع الذي تتصف به حَرْفيَّة الثقافة [في ط 1402 ه: «حرفة الثقافة» وهو تطبيع] ونزعة المديح، وتلك وسيلة رشيقة مناسبة تخفي مواضع النقص والاختلال، فتجمل الأخطاء، وتستر العجز بستار من البلاغة المزعومة» (انظر وجهة العالم الإسلامي 54)، ففكرة التقنُّع للتحيُّل واضحة هنا، على أن ابن نبي لم يقتصر في تحليله على الأقنعة اللغويَّة الجماليَّة؛ بل تعرض لأنواع أخرى من الأقنعة الجميلة الخدَّاعة، وذلك كالأقنعة الأيديولوجية، فقناع الجمالية هنا فكري لا لغوي، ودائمًا يراوح ابن نبي في كشفه لهذه الأقنعة بين نوعين متقابلين منها لا يفتآن يتصارعان ويتنافسان على قيادة المجتمع الذي يقع تحت ظرف حضاري معين هو ظرف «القابلية للاستعمار»؛ أحدهما: قناع «الإصلاح» الذي تتلبسه النخبة المحافظة التي لم تتمثل أصولها الحضارية (= مقاصدها)، والآخر: يبرز في أقنعة متعددة تتلبسها النخبة من أصحاب الحركة الحديثة (= الحداثيون فيما بعد)، ويشترك هؤلاء مع الطائفة الأولى في عدم تمثل الأصول الحضاريَّة التي يدْعون إليها، وهي أصول الثقافة الغربيَّة، لعدم فهمهم لروحها العمليَّة، يقول: «ظهرت طائفتان من النخبة؛ النخبة التي تتكلم العربية وتحاول مع ابن باديس أن تسترد الأصول الإسلاميَّة، وهي الفكرة التقليدية التي أفلتت منها نهائيًّا مع سقوط الإصلاح وفرار أتباعها إلى الوظائف العامة بعد الثورة. وطائفة تتكلم الفرنسية وتتنكر بكل الأقنعة كالكمالية.. والبربرية والتقدمية والوجودية المزيفة والماركسية المزيفة كي تخدم تحت كل سمة من تلك السمات آلهة اليوم وتمائم الساعة، وفي الحقيقة لتخدم نفسها تحت أي قناع من هذه الأقنعة.. فالطائفة الأولى لم تنجح في إرساء اتِّصال بين الروح الجزائرية والتقاليد الأصليَّة للسلف الصالح، لعدم وجود اتصال حقيقي لديها بنماذجها المثالية، والطائفة الثانية لم تستطع إرساء اتصال مع حضارة، لعدم فهمها لروحها العمليَّة» (مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي 139 140). كما لم يفته التنبه لنوع خطير من التقنع يصوغه صاحبه من مادة «القداسة» بروح مكيافيلية لا تعبأ إلاَّ بالفعالية، غير واضعة في ميزانها أيَّ قيمة لكلمات من قبيل الحق أو الخير أو الضمير، يقول: «التاريخ يزخر بالأفكار التي وُلدت باطلة، ليس فيها أصالة لكنها مع ذلك كان لها فعاليَّة مدوية في أكثر الميادين تنوعًا، وغالبًا ما تكون هذه الأفكار مُحجَّبة مضطرة لحمل قناع الأصالة لتدخل التاريخ كلص يدخل منزلاً بمفتاح مزيف، فليبنز Leibnizلم يكن فحسب رياضيًّا فذًّا، بل إنَّه قرأ دون شك مكيافيلي، وفي تأملاته السياسيَّة كان يوصي بإخفاء الدنيوي والنافع في ثوب المقدس، ذلك أن الفكرة إذا كانت فعَّالة في بعض الظروف فلأنها استطاعت أن تتمتع بخاصيَّة القداسة عند أهل العصر..» (السابق 104). والأقنعة الثقافية بهذا المعنى الذي يطرحه ابن نبي تأخذ معنى الذم، لأنَّها تنافق الأخلاق، لكنَّ لفكرة القناع هذه أصلاً موضوعيًّا مجردًا هو ما أخذه ابن نبي من عالم النفس يونج الذي فرق بين جانبين في الفرد، هما ما سمَّاه: «القناع» و»ما وراء القناع» / «الظل»؛ «ويقصد بالقناع الجانب المتجه ناحية المجتمع، ويقصد بالظل الجانب المتجه نحو الطبيعة والغريزة، أي نحو ما هو حيوي. والظل هو مجال الطاقة الحيوية في حالة البدائية غير المكيفة.. والقناع هو المجال الذي تتم فيه عملية تكييف هذه الطاقة الحيوية الخام من أجل تحويلها إلى طاقة قابلة للاستخدام الاجتماعي. وهو المجال الذي يصبح فيه الأفراد المهذَّبون المثقفون وسائل في خدمة ضمير، كما يتم اتصالهم بالحياة عن طريق الضمير لا عن طريق الغريزة مباشرة؛ إنها عملية إدماج رئيسة تمنح نشاط الغرائز كل فاعليته الاجتماعية..» إلخ (ميلاد مجتمع 64 65) [أقول: يظهر أن يونج أفاد هنا من تفرقة فرويد بين الشعور واللاشعور]. فالعلاقة بين القناع وما وراء القناع هنا علاقة صحية؛ لأنَّها تعبر عن عملية تكيف ضرورية تجعل الغرائز تقوم بوظيفتها الاجتماعيَّة والحضاريَّة المطلوبة من الإنسان بوصفه كائنًا حضاريًّا ذا قيم ورسالة، ومن ثم تعبر هذه العلاقة عن حالة توازن على المستوى الفردي وعلى المستوى الثقافي، في حين أن الأقنعة الثقافية التي حللها ابن نبي والتي تتلبسها النُخب لتمرير أفكار معينة ظاهرةٌ مَرَضيَّة؛ لأنها تنشأ في بيئة صراع ثقافي بين ذات مستعمَرة قابلة للاستعمار وذات مستعمِرة مستجيبة تلقائيًّا لضعف الذات الأولى؛ ذات لم تملك بعدُ الوعي بعللها ومشكلاتها فظنَّت أن مجرد التظاهر بالأفكار والمبادئ (سواء أكانت أصلية أم مستعارة) هو وسيلة العلاج وطريق النهوض، فوقعت في داء الشكلية ومن ثم الشلل الاجتماعي. لكن ظاهرة الأقنعة الثقافيَّة المرَضيَّة تختلف عن التكيُّف الثقافي؛ فكما يوجد تكييف للغرائز على المستوى النفسي الفردي ليقوم الإنسان بوظيفته الاجتماعية كما ينبغي فكذلك يوجد تكييف لعناصر الثقافة على المستوى الحضاري ليقوم الإنسان برسالته الحضارية، وتلك العناصر هي المتمثلة في الأفكار والأشياء والأشخاص في صورتها الأولية الخام التي يركّب منها الإنسانُ الذي يستأنف حضارة أو يجددها مركبًا إنسانيًّا يسمى حضارة، لها روح تسمّى ثقافة، وهذا التكييف الثقافي هو ما فصل ابن نبي الحديث عنه في شروط النهضة (78 142) تحت مفهوم «التوجيه الثقافي»، وفي مشكلة الثقافة (67 89) تحت عنوان: التركيب النفسي للثقافة. والمقصود هنا أن الغذَّامي حينما اختطف فكرة الأقنعة الثقافية من ابن نبي قصرها على الجانب الجمالي فقط، تلك الأقنعة التي تستر ما سمّاه مرض «الشِعْريّة» الذي اختطفه الغذَّامي أيضًا وزوّق سرقته بتحريفه إلى «الشَعْرَنة»، وزعم أنه هو المرض النسقي الوحيد الذي سرى في جميع المجالات الفكرية والسلوكية التي تفرزها ذاتنا الخفية المريضة، ومن ثم ليس له إلاَّ قناع وحيد هو قناع الجمالية اللغوية، فكان هذا منه تشويهًا للفكرة باختزالها اختزالاً مخالفًا لحقيقتها. ثم أضاف إلى هذا التشويه تشويهًا آخر تمثل في خلطه بين التكيّف والتقنّع؛ أي خلَط بين حالة صحية وأخرى مرضية! فظن أن كل عمليَّة نفسية ثقافية تتضمن ظاهرًا وباطنًا أنها تعني حتمًا حالة مرضية ذات جراثيم وعمى وعوائق! ممَّا يدل على سطحيَّة تناوله للأفكار واعتسافه المفاهيم فلا يفرق بين نُقَط الافتراق والاجتماع في المفاهيم، ولا يراعي السياقات المختلفة التي تستلزم اختلاف التصور والوصف والحكم، وسبب ذلك أنه مختطِفٌ لها في عَجَلة وليست وليدة معاناة فكريَّة وتجربة شخصيَّة، ولذا لا يعي مقاصد أصحابها المبدعين لها، فيعبث ويشوّه ويخرج للقارئ بعمل ملفق مضطرب، وهذا يعني أننا لسنا بصدد سرقة أفكار فقط، بل بصدد خلطة مركبة من سرقة وتشويه واضطراب. ويلحق بهذا المفهوم الثاني المفهومان الثالث والرابع فهما عن الحيل الثقافية عمومًا والحيل البلاغية خصوصًا.