أرقب سنوات عمري الهامشية تمضي.. تتناقص، وكأنها مجرد بسمة جميلة ذات بريق جذاب ورائحة عطرة.. أدور في ممرات الدار أهيىء أسباب الراحة لو لدي ووالدتي، ولم أكن أعلم بأن هناك من يهيىء لي لحظات الشقاء ورعب الأحلام الغادية في زمن متاهاتي الكثيرة. عزيزتي نورة.. هل تعلمين بأن الوالدين قد شدا الرحيل إلى حيث يشد الرجال إليه في يوم ما وان الإخوة قد تفرقوا وبات الدار برائحة قهوته الصباحية وبخوره الجذاب ينادي ينتشر في الأفق محدثاً رسماً عجيباً، وكأن خيوطه تنسج قصة درامية يحكي ما آلت إليه حالتي بل وغربتي الدفينة. حتى أتى ذلك اليوم البائس عندما طرق الباب بقوة أذهلت دجاجاتي المنتشرة.. فأسرعت تلوذ بالفرار إلى أعشاشها، وكان أخي الفائر دائماً.. الشكاك ذو الصوت العالي والتصرفات الرعناء.. دخل من باب الدار وهو يناديني فما أن خرجت بوجهه حتى وقف فاغر فاهه وهو يرمقني بنظرات رهيبة يستفسر.. من كان عندي؟؟ حدجته بعيني الغاضبتين وأنا أقول له: من ممكن يأتي إلي. قال بتعجب: رائحة القهوة.. الدخون.. كل شيء يوحي لي بأن في بيتنا أنفاسا! فرت الدموع من عيني وأنا أقول له: نعم هنا أبي يسبح ويحسب حساباته فوق أريكته.. وهنا أمي ما زالت ساجدة تصلي صلاة (الضحى) وحتى جدي أسمع صوته وهو يهذي.. ينادي على أولاده عندما كانوا أطفالاً ويبكي لفقد واحد منهم وهو بالثالثة من عمره!! صرخ وهو يضرب كفاً بكف ويتهمني بالجنون. خرج من عندي ولكن خروجه كان بهدف الاجتماع مع بقية إخوتي للنظر في حالي.. حيث قرروا إخراجي من منزل أبي وتوزيع إقامتي كل شهر عند أحدهما بل وبيع المنزل وأخذ نصيبي منه مقابل سكني عندهم.. وكأنني أدفع ضريبة بقائي على قيد الحياة لكل من يؤويني. كالرحالة.. أحمل همي.. أبلع دمعي.. حتى صرخاتي كالثورة العارمة من إنسان فقد عقله.. أطلقها بوجه الطبيب. ولكن.. صرخاتي أنا.. أوجاعي الغاضبة تتفجر بأعماقي فأجدها تستقر بنفسي التائهة.. غاليتي نورة.. هل تذكرين (هيونة) اسمي الذي أطلقوه علي أيام المرحلة المتوسطة.. أيام الانطلاق.. البراءة.. الطريق المحفوف بالورود والوله وبيوت الشعر.. والمشاعر المتضاربة الصغيرة!؟ هل تتذكرين (هيونة) المرحة.. المبتسمة النشيطة الفرحة دائماً.. هي الآن مجرد نسيج يتحرك.. تنتقل من مكان إلى مكان دون أمل لها في هذه الحياة.. لقد صحوت يوماً على خبر أقرأ تعابيره على الوجوه والنظرات.. نعم.. كان لمنزل أخي في ذاك الصباح ترتيبات غير معتادة. وكأنها سكنت نفسي بعض الشيء وأنا أرى ابتسامة ابنة أخي المشرقة وهي تبارك لي بقولها: الآن (هيونة) سيكون لها منزل خاص واستقرار معنوي، وسنأتي لزيارتها والسمر عندها!! لحظتها فهمت كل شيء، وكم تمنيت في قرارة نفسي أن يكون هو.. هو من سينسيني عذابات الأيام ومر الذكريات الحزينة، ويعوضني الفقد الذي تعمق بكياني لوالدي وأسرتي. لقد تم زفافي لإنسان حسبته قارب النجاة لي فصار قارباً مثقوباً.. إنه يحاول غمس رأسي بالوحل وكسر شموخي وإيذائي بذله المتعمد لي من خلال التهميش والتقليل من شأني أمام والديه وأخواته..؟ وبكيت عندما كشفت لي الأيام خيبة أحلامي.. لقد كنت أتجرع كؤوس الهم والغم ولم يمنعني من الهروب من جحيمه غير الذي تحرك وسط أحشائي يرجوني ألا أفعل! وتمر الأيام وأرزق بطفل كتب له أن يعيش بيننا ولكن في عالم آخر.. دنيا أخرى.. فهو يسبح في ملكوت خاص خال من هموم الحياة وعزائها. لا يعلم ما حوله ولا يطلب ما يرى، ولا يعرف الجوع أو الشبع.. مجرد كتلة تزحف.. تتحرك حتى انتصب واقفاً قد كساه الله جمالا وكأنه من أولاد الجنة.. كنت أتأمله وقت خصامي ووالده وهو يراقب الموقف بأذنيه فقط.. فقط بأذنيه.. محاولاً إشغال نفسه بما بين يديه من لعبة، وعندما تهدأ العاصفة يرفع رأسه وينظر إلينا بابتسامة عتب وبملامح المودع الذي يعرف مدة إقامته ويستعد للرحيل.. تصوري أشعر بصورته وقد حفرت على كل ركن من أركان المنزل، أتذكر عينيه عندما يفيق من نومه وقد احتقنت بالدموع دون سبب. وذات يوم كنت أبكي كعادتي وأنا أقلب أوراقاً قديمة بيدي، وقد امتطيت صهوة الذكريات بحلوها ومرها. كان الوقت يقترب من الغروب وأنا أمر بمواقف كان لها أثر في حياتي من خصاماتنا وإخوتي ولحظات نجاحي الأولى وهدايا أبي. وفجأة أقبل علي راكضاً!! غمس رأسه الجميل العطر بحضني ولأول مرة قبل يدي.. كأنها قبلة الوداع.. كأنه يكافئني على صبري عليه والعناية به.. حسبته خلد إلى النوم على صدري.. حتى رميت أوراقي.. هربت من بوتقة الماضي.. أفاقتني رجفة.. جف ريقي..!! ضممته وأنا أستغرب تصرفه هذا.. كان نفسه رقيقا انسيابيا دون أي جهد.. أي جهد. فجأة توقف.. ارتخى.. لانت أوصاله بين يدي وفي روحي وقلبي.. حملته.. كان أخف بكثير من قبل.. كانت صدمة قاسية لأعصابي وذاتي وقلبي.. عندما قالت لي جدته لقد رحل.. رحل.. رحل.. كان صدى هذه الكليمات يتردد بأذني ويغزو كبدي حتى أحسست أنها تشبعت أوراماً.. تصوري صرت أشرب دمعي.. فما زالت أنامله مطبقة على ضفيرتي بشدة.. عرفت أنه لن يبقى معي.. سلمته إليهم وأنا أخلص شعري من يده الباردة.. آآآآآه.. وأبيات شعري تناثرت.. ولوعة فؤادي انطلقت.. وأنا.. وأنا.. أبكي.. بل.. أعظم من البكاء.. أكبر من هذه الحالة تنطلق من قلبي. على وعد مني له بأن أرافقه عن قريب.. عزيزتي.. يتملكني إحساس شديد.. يلح علي.. كأنها السكينة يا صديقتي.. الطمأنينة بأني سألقاه يوماً ما.. فهل يتحقق الوعد؟