من نجد بلاد الشيح وعروق القيصوم، وغضى القصيم، ومهب الصَّبا، ومسرى النعامى، ومنبت العرار والخزامى، وفوق الأنجاد الرملية وبين ظلال النخيل، كان هناك أعلام في التاريخ مروا علينا، وكانت لهم حياة وضاءة ومآثر جليلة, وإذا كان للربوع الدارسة, والرسوم الطامسة حق على سكانها الأقدمين إذا مروا بها أن يعوجوا عليها ويفوا لها بوقفة وفاء ودمعة إجلال, قياماً يذكرون فيها أحداثاً وقعت ورجالات مرت هنا وكانت ملء السمع والبصر، وهذا الكتاب «علماء البكيرية خلال ثلاثة قرون» الذي بين أيدينا فضله جم, ومحاسنه عديدة, من الأفعال الجليلة، التي لها أثر بالغ في حياة البيئات العلمية. لقد كُتب عن مدينة البكيرية ولحقها بعض التآليف ككتاب الشيخ علي المقوشي «البكيرية» في سلسلة «هذه بلادنا» وكتاب الأمير محمد بن يوسف الدخيل الله «الوثيقة وما أهمله التاريخ لمدينة البكيرية» وكتاب «البكيرية» للعم الشيخ صالح بن عبدالعزيز الخضيري التميمي، ثم جاء تالياً لهم وعلى أثرهم فضيلة الشيخ الدكتور عبدالعزيز بن محمد بن عبدالمحسن الفريح الأستاذ في قسم فقه السنة وأستاذ الدراسات العليا في كلية الحديث بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية فاستولى على غاية الأمد، ونهاية المدى والعدد، فبذ من سبقه وأناف عليهم، بتآليفه الممتعة الناطقة له بالتمكن والبراعة فمنها: 1- علماء البكيرية خلال ثلاثة قرون، وهو موضوع بحثنا في هذه المقالة. 2- «مساجد البكيرية تاريخها وأئمتها». طبع 3- «فضائل بني تميم في السنة النبوية». طبع 4- «قيس بن عاصم المنقري وحديثه». طبع 5- نسب «آل سلمي». طبع 6- تحفة النبيه فيمن ادعى لغير قبيلته وأبيه. طبع 7- تاريخ البكيرية. مخطوط 8- «أمراء البكيرية والغزوات التي اشترك فيها أهلها». مخطوط 9- «كتاب أثبت فيه وثائق البكيرية مع دراستها». مخطوط 10- «أوقاف البكيرية». مخطوط 11- «أخبار الأحنف بن قيس التميمي وحديثه». مخطوط 12- نسب بني تميم. مخطوط 13- نسب آل حماد. مخطوط وعلم التاريخ والرجال من آكد أبواب علم الحديث الذي اختص به د.عبدالعزيز الفريح وتصانيفه وتحقيقاته معروفة في ذلك فقد كانت أطروحته للدكتوراه في تحقيق كتاب «محض الصواب في فضائل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب» لمؤلفه ابن المبرد، جمال الدين يوسف بن حسين بن عبدالهادي المقدسي وقد طبع في ثلاثة مجلدات، ومثل هذه التآليف من رأى الذي طبع منها أو سمع بها علم أن المؤلف شرب بماء يعجز الطير ورده، والمؤلف من بيت علم، فجده معدود من العلماء، مذكورة ترجمته في تواريخ نجد، وكان والده -رحمه الله تعالى- مرجعاً في البكيرية وما حولها في الأنساب والأخبار، وكان الأستاذ حمد الجاسر -رحمه الله- يرجع إليه فيها، حتى قال في رثائه الفقيه الشاعر الدكتور صالح الخزيم رحمه الله: لقد طبع الإنسان على حب الأخبار والاستخبار، وأحب الناس أن ينقل عنهم ونقشوا خواطرهم في الصخور، (إن التواريخ وذكر السير راحة القلب، وجلاء الهم، وتنبيه للعقل؛ فإنه إن ذكرت عجائب المخلوقات.. دلت على عظمة الصانع، وإن شرحت سيرة حازم.. علمت حسن التدبير، وإن قصت قصة مفرط.. خوفت من إهمال الحزم، وإن وصفت أحوال ظريف.. أوجبت التعجب من الأقدار، والتنزه فيما يشبه الأسمار) (1). ولقد أحسن ابن خميس -رحمه الله- في مقدمة كتابه تاريخ مالقة- في قوله: (إن أحسن ما يجب أن يعتنى به ويلم بجانبه بعد الكتاب والسنة: معرفة الأخبار، وتقييد المناقب والآثار؛ ففيها تذكرة بتقلب الدهر بأبنائه، وإعلام بما طرأ في سالف الأزمان من عجائبه وأنبائه، وتنبيه على أهل العلم الذين يجب أن تتّبع آثارهم، وتدوّن مناقبهم وأخبارهم؛ ليكونوا كأنهم ماثلون بين عينيك مع الرجال، ومتصرفون ومخاطبون لك في كل حال، ومعرفون بما هم به متصفون، فيتلو سورهم من لم يعاين صورهم، ويشاهد محاسنهم من لم يعطه السنّ أن يعاينهم، فيعرف بذلك مراتبهم ومناصبهم، ويعلم المتصرف منهم في المعقول والمفهوم، والمتميز في المحسوس والمرسوم، ويتحقق منهم من كسته الآداب حليّها، وأرضعته الرياسة ثديّها، فيجدّ في الطلب ليلحق بهم، ويتمسك بسببهم) (2) اه. وكنت التقيت بالمؤلف في مجلس الشيخ محمد العبودي ثم أكرمني بالاجتماع به فوجدته أصيل الرأي، جميل المشاركة، وأهدى لي بعض كتبه ومنها هذا الكتاب «علماء البكيرية» الذي هو الجزء الأول وخصه فيمن توفاه الله والجزء الآخر الذي لم يصدر بعد خصه فيمن توفي بعد عام 1433ه أو من فاتته ترجمته ومن عاصر من الأحياء. وهذا الكتاب هو أول مجموع اختص بعلماء البكيرية، قد بذل فيه جهده، واستفرغ طاقته، وقد تهيأ له ذلك وسهل عليه، بما يملكه من مخزون تاريخي وافر، وحسن استعداد، وخاطر مواتي، ورأيت قلمه سار في كتابه معتدل الحال بين الرضا والغضب أو عارياً منهما جملة، فكان الصدق في وصفه، وهذه حلية ضرورية في كتابة السير ولما شرعت في قراءة الكتاب تذكرت قول عباس محمود العقاد: وقد عقد المؤلف الكريم كتابه على ثلاثة فصول: الفصل الأول: خصصه لقضاة البكيرية وأئمة جامعها مرتبين حسب توليهم القضاء والإمامة. الفصل الثاني: جعله في علماء البكيرية من غير قضاتها وأئمة جامعها. الفصل الثالث: قيد فيه تراجم القضاة الذين هم من خارج البكيرية ونظر في قضايا أهلها، إما لعدم وجود قاض بها أو كون القاضي مرجعاً عاماً للقصيم. وبلغ عدد تراجم كتابه سبعين ترجمة، وبلغ عدد صفحات كتابه 400 صحيفة وبلغ عدد الوثائق المذكورة فيه اثنين وثمانين وثيقة. وبلغت تراجم الفصل الأول أربعاً وعشرين ترجمة وفي الفصل الثاني بلغت تراجمه تسعاً وثلاثين ترجمة قال في بداية هذا الفصل: «أذكر في هذا الفصل علماء البكيرية ممن لم يتولوا القضاء فيها وإمامة جامعها وقد رتبتهم حسب وفياتهم» ثم ساق أسماءهم، ويجد الناظر أن المؤلف ذكر أمهات فُضْلَيات كان لهن مشاركة في التعليم وإن لم يبلغن مبلغ العالمات ولم يدخلن في شرط الكتاب، وكان الأولى بالمؤلف عدم ذكرهن أو أن توضع تراجمهن في حواشي الكتاب. والفصل الثالث الأخير وفيه سبع تراجم. ثم ملحق الوثائق، وليت المؤلف جعل الوثائق في ثنايا التراجم لتكون أسهل لنظر القارئ من الرجوع إلى آخر الكتاب، وبإمكانه أن يخدم القارئ على نحو أكبر لو أنه أبرز الوثائق المستغلقة مطبوعة بالرسم الحديث. قال المؤلف في مقدمة كتابه «وإن اللافت حقاً والمعجب صدقاً أن هذه البلدة (البكيرية) رغم صغرها قد أخرجت فقهاء أفذاذاً، وعلماء نقاداً، وضمت أسراً شهيرة في العلم والفضل، وحضر مجلس الإمام عبدالعزيز بن عبدالرحمن في القصيم في محرم من عام 1337ه عدد كبير من علماء البكيرية الذين التقى بهم الإمام وتناقش معهم في بعض الأمور، ويظهر من هذا أن البكيرية كانت منذ عهد بعيد مليئة بالعلماء وطلبة العلم والمتتبع للحركة العلمية في البكيرية يجد أن هناك عدداً من العوامل التي ساعدت في النهضة العلمية ومنها...» اه. وساق المؤلف هذه العوامل الثلاثة مما لا أطيل بذكره هنا ثم ذكر في نهاية مقدمته للكتاب منهجه في ترجمته للعلماء الذين ذكرهم بقوله «قمت بالترجمة لكل عالم من أهل البكيرية ولد فيها أو توفاه الله بها أو عمل بها، أو أم في جامعها، أو تتلمذ فيها أو أجاد فناً من فنون العلم الشرعي». ثم اعتذر عن طول بعض التراجم وقصرها بقوله: «فهذا على حسب المعلومات المتوافرة لدي، وقد تفوتنا أخبار ومعلومات عن بعض المترجمين وهذا بسبب قلة المصادر، فمن وجدنا له أخباراً أثبتناها ومن لم نجد له أخباراً اقتصرنا على ما علمنا، وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع». ثم استشهد المؤلف بأبيات الإمام الشاطبي في متن الشاطبية: قلت: التراجم في كتابه متناسبة المقدار وهو لا يسترسل في ذكر الحكايات ذات العنصر الشخصي للمترجم التي عادة ما تسجل تجربة أو خبراً أو مشاهدة كما هو معهود في كتب المتقدمين، كالتراجم التي يذكرها القاضي عياض والذهبي وابن حجر وغيرهم كثير التي تفيد الخبر الطريف والتجربة الصادقة إلا في قلة من تراجمه. وليت المؤلف تطرق إلى تاريخ الجامع الكبير في البلدة أو ليته انتزع ما كتبه في كتابه الآخر عن مساجد البكيرية ووضعه أو شيئاً منه هنا لداعي المناسبة. ومن نفائس هذا الكتاب وفوائده التي لم أقف عليها إلا في كتابه ما ذكره من تحديد موضع البكيرية الجغرافي لدى المتقدمين في قوله: «والذي يظهر لي أن آبار البكيرية قديمة وأنها هي (مبين)، قال لغدة الأصبهاني: «(مبين) هي من عظام مياه ضبه وهي لبني السيد قال الراجز: وقال: «الرهل بين القريتين وفيد... وراء القريتين بنصف مرحلة ملتقى الرهل والجلد» ثم عقب المؤلف بقوله: «وهذا الوصف ينطبق على البكيرية، فشرق البكيرية كثيب بطول سبعة (كم) من الجنوب إلى الشمال، يسميه أهل البكيرية «الجردة» وهي منقطع الرمل وبداية الجلد فإذا نظر المرء من أعلى كثيب الجردة ونظر جهة الشمال والغرب رأى الجلد والمراعي الفسيحة, فلا ريب عندي أن مبين هي البكيرية» وهو هنا حدد المكان بخلاف ما جاء عن بعض بلداني نجد كالشيخ العبودي في كتابه معجم بلاد القصيم الجغرافي، حيث حدد الجهة على خلاف بينهما. ومن الفوائد تحريره لتاريخ نشأة البكيرية وأنها عام 1185ه معتمداً على كتابات جده فريح المتوفى سنة 1271، وتصحيحه لأوهام من سبقه من المؤرخين كالشيخ ابن عيسى حول من اشترى روضة البكيرية في قول ابن عيسى: «اشتراها علي ابن سويلم جد آل عمير بن سويلم»، فتعقبه بقوله: «هذا وهم فآل عمير من ذرية خضير بن محمد بن عثمان أخو علي بن عثمان». * لا يعدم مطالع الكتاب من تصحيحات المؤلف لأوهام من سبقه من المؤلفين في سير علماء نجد وتاريخها. * ومن غرائب القصص ذوات العبر التي جاءت في كتابه عن الشيخ العلامة العم إبراهيم بن عبدالعزيز الخضيري رئيس محاكم القصيم -رحمه الله- في ص 75 في قوله: في ليلة شاتية تحلقت وبعض أسرتنا حول سمر أوقد، وفجأة قصَّ أبي علينا قصة عجباً لم يقصها عليّ من قبل. قال: عندما كنت بالسليل كان معي أبي فمرض، فسافرت به إلى جدة لمراجعة طبيب ذكر لي هناك، وفي اليوم التالي لوصولنا وصلتني برقية من السليل يخبرني مرسلها بوفاة أحد أبنائي فترقرق الدمع من عينيّ، وكتمت حزني عن أبي ولم أخبره، وفي اليوم الثاني وصلتني برقية أخرى يخبرني مرسلها بوفاة ابني الثاني ففاض الدمع من عينيّ وعظم حزني، وفي اليوم الثالث وصلتني برقية ثالثة فوجل قلبي منها، فلما قرأتها وجدت مرسلها يخبرني بوفاة ابني الثالث، وكانت أعمار أبنائي بين ثلاث وخمس سنين، وكانوا قد تعلقوا بيّ وتعلقت بهم، ولهم في القلب منزلة، فسال الدمع من عينيّ، وقصدت البحر حتى لا يقرأ أبي ملامح الحزن على وجهي، ووقفت على ساحله ليختلط ماء دمعي بمائه، وكنت أجد رغبة قوية في القيء فأقيء دماً. قال محدثي: وقد شعرت بقشعريرة تسري ببدني وأبدان من حولي، وترقرق الدمع من مآق البعض منا وسال من آخرين، فرفعت رأسي لأسأل أبي عن أسماء إخوتي، فوجدت دمعه يجري على خدَّيه، فألجمني رهبة الموقف عن السؤال.. لقد كتم الشيخ حزنه على أبنائه في قلبه، ولم ينسهم رغم مرور ما يقارب خمسين عاماً على ذلك. والقارئ للكتاب عندما يطالع أسماء العلماء المذكورين فيه يتحقق له أن الشائع في بلاد القصيم في تلك الفترة من أسماء الرجال تسعة أسماء وهي (محمد، علي، عبدالله، عبدالرحمن، عبدالعزيز، صالح، سليمان، إبراهيم) (4). وحق لهذا الكتاب أن يتلقى بالقبول، فهو من الأفعال المحمودة، متصلة النفع والشرف والفضيلة في الحياة وبعد الوفاة، ومذخورة للأعقاب، وحديث جميل ونشر باق على مر الجديدين وأكثر من ذلك كله توفيق الله وتسديده وحسبنا الله ونعم الوكيل. ... ... ... الحواشي والتعليقات: 1- الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ للسخاوي: ص43 2- المصدر السابق: ص47 3- ديوان من دواوين: ص230 4- التاريخ الاقتصادي للسديس: ص170 ** ** - كتبها المستشار/ فهد بن محمد الخضيري