هل الوجع مرض أم بصيرة؟ هل يملك الوجع فلسفة نضوج؟ أنا هنا أطرح الأسئلة فقط، لا أملك إجابات، ولا أحمل معجزات. في الحقيقة، جميعنا نملك أوجاعنا الخاصة، جميعنا ستذيقنا الحياة الوجه الآخر عاجلاً أو آجلاً، وسنواجهها بأشكال ومستويات عديدة. والرائع أننا نحن البشر لسنا فقط نختلف في اللغة والجنس واللون، ولكن أيضاً في طريقة التعبير؛ فلكل منّا وجعه الخاص. أيضاً كل كاتب له شخوصه وشجونه ورؤيته وزاويته للألم. لقد كان شكسبير وداني ويكتس جميعاً أشخاصاً طبيعيين متفقين مع المجتمع كل الاتفاق، إلا أن الألم كان واضحاً في بطل قصّة ويلز "بلد العميان" الذي وحده يستطيع أن يرى قائلاً "الأعور في بلاد العميان ملك" حالته تتلخص في واقع مليء بالألم. إنه مريض في حضارة لا تعلم بأنها مريضة. أيضاً لا نتجاوز أوجاع عشرين عاماً في السجن لعائلة الجنرال أوفقير الذي عمل طوال حياته بالقرب من القيادة المغربية، ثم قام بمحاولة اغتيال للملك الحسن الثاني، وسجن في بداية السبعينيات؛ ليعدم بعدها بخمس رصاصات في جسده. ونتيجة لموقفه تعرضت عائلته لأشد أنواع التنكيل في سجن سري في الصحراء الكبرى، وكان من ضمنهم مليكة، إلى أن تمكنوا من الفرار بعد 19 عاماً قضوها في السجن؛ إذ قامت هي وإخوتها بحفر نفق، أرشدها أخوها رؤوف لكيفية حفره، ونجحوا في الهروب. تقول مليكة من كتابها الشهير السجينة: "كل شيء كان يدفعنا إلى أن نكون من بين الأموات.. ونحن كنا نناضل، ونأمل أن نكون من بين الأحياء". إنها إرادة الحياة، تجاوزت أوجاعهم الحياة، وتفوّقت عليها، وقتها أصبح الموت أمنية غالية، صعبة المنال "إني لأرثي لكل هؤلاء البشر الذين يعيشون خارج قضبان السجن، ولم تتسنَّ لهم الفرصة ليعرفوا القيمة الحقيقية للحياة". هل يحمل الوجع معه دروساً؟ هل هو لاختبارنا أم فقط لزيادة عذاباتنا. تختلف الإجابة مؤكد، وإلا لما أصبحنا بشراً. ومن لم يفجع بالموت ربما لا يتقن الحديث عنه فعلاً. باولو كويلو في روايته "فيرونيكا تقرر أن تموت" تكشف لك عالم المجانين لتصل في النهاية إلى قناعة بأنك مجنون، وأن المرض الذي تعاني منه هو مقاومة شيء حتمي في كل إنسان، وهو أنك مختلف عن جميع البشر، بأن لديك ما يسعدك وما يحزنك وما يشعرك بالحرية أو ما يجلب لك التعاسة.. أمور خاصة بك أنت وحدك، غير أنك كفرد في هذا المجتمع تجاري من حولك فتحاول أن تضحك معهم، وتحزن معهم، رغم اختلافنا الفطري. وحتى وإن اعتزلنا المجتمع سيصبح لنا مجتمعنا الخاص الذي سيكون له تقاليده وعاداته المجنونة التي يجب بدورنا مجاراتها على حساب عواطفنا ورغباتنا. بطلة هذه الرواية شابة حاولت الانتحار، لكنها فشلت، فوجدت الرغبة في الحياة بعد تجربتها وبعد معرفتها بأنها تموت موتاً بطيئاً.. قائلاً: "كثيراً من الناس الذين نعرفهم يتحدثون عن آلام ومصائب حيوات الآخرين وكأنهم مهتمون وقلقون بالفعل.. ولكن الحقيقة أنهم يتمتعون بمعاناة الآخرين؛ لأن ذلك يجعلهم يؤمنون بأنهم سعداء جداً، وأن الحياة كريمة للغاية معهم". كل إنسان يستطيع أن يدرك وحده مدى العذابات التي يقاسيها هو. البير كامو ابتدأ روايته "الغريب" بوجع إنسان وجودي غير مصدّق قائلاً: "اليوم ماتت أمي، وربما ماتت بالأمس، لست أدري! فقد استلمت برقية من دار المسنين فحواها: (ماتت الأم، الدفن غداً. تحيات طيبة)". الكاتب يخلق في البداية شخصيات وهمية على الورق، لكن بعد أن يمنحها أسماء وصفات ومشاعر تعيش بيننا، تتألم وتتأذى، وتملك همومها الخاصة، يختلق لهم أوجاعهم وأحلامهم؛ ليطرح لنا ماذا ستتعامل هذه الشخصيات مع ما ستواجهه.. لكن أنت أيها القارئ لك هنا حريّة التعامل مع وجعك الخاص.. كما يوجد شكسبير وغوتة وكيتس يوجد أيضاً البير كامو وباولو كويلو وكافكا.. هنالك من يحوّل أوجاعه إلى سخرية ونكتة، وهنالك من يحمّلها أكبر مما تستحق، وأيضاً هنالك من ينتظر.. وينتظر النور بنهاية الكهف.. كل منّا له أوهامه وتفاسيره وهواجسه.