في الأنثروبولجيا الثقافية يشيع طقس الختان العلني، حيث يكون ذلك إعلاناً لبلوغ الفتى حد النضج وتكون حفلة الختان على مشهد جماعي، حيث يجري سلخ الجلد عن الجسد في منظر دموي تسيل فيه الدماء، ولكن لا يجوز فيه أن تسيل الدموع، والفتى الذي تدمع عينه ينتهي أمره حتى لا تقبل به أي فتاة كزوج لها، ويجري سلخ الجلد من السرة حتى الركبة وتعمل السكين عملها في الجسد، وهي حفلة تمثل العمر كله للبطل المسلوخ أمام أعين المجتمع الريفي المحيط به والمشاهد له والمحتفل به في الوقت ذاته، وهي حفلة أشبه ما تكون بلعبة استمتاع بالألم والوجع وامتحان وجداني على التحمل والتجلد، ومهما كانت الدماء السائلة فإن الذي لا يجري التسامح فيه هو الدمعة التي لا يجوز أن تسيل في مثل هذا الموقف. حضرت قصة الختان بصيغتها هذه في ذهني وأنا أقرأ رواية معجب الزهراني (رقص)، هذه الرواية التي تبدت لي وأنا أتجول في صفحاتها وكأنها ختان يمارسه فتى وبصيغة علنية، حيث تخطئ يده وبدلاً من أن تأخذ الورقة والقلم لتكتب أخذت سكيناً وراحت تكتب على جسدها، أو تسلخ جسدها بالسكين، وهذه هي صورة النص عندي. هو نص يمثل على أنه شهادة ثقافية عن نصف قرن من الزمان والمكان، ولكن صاحبه لا يكتبه بالقلم ولا يضع بين يديه ورقة، إنه يحرك أصابعه فقط وتسقط الكلمات، ويبدأ معه باقتراف الذنوب من أول وهلة في النص، فالرواية تستلف عنوانها من لوحة فنية رسمتها آمال معجب الزهراني وكانت تمثل العنوان (رقص) وتكتبه في الذاكرة، ويبشرنا النص بلوحة أخرى ينص عليها في الصفحة التاسعة وهي أيضاً من رسم آمال عن جدتها ويعلن أنه سيسميها أمه وأنها على الغلاف الأخير، ولكنك تنظر في الغلاف الأخير فلا تجد سوى كلمات مكتوبة على ورق ولا وجود للوحة عن الأم، هذا هو أول الخطايا، حيث ينسى النص سبب وجوده ويأخذك في رقصة ترقصها مع راقص ليس له سوى قدم واحدة، وهنا يبدأ الوجع، إذ يدفعك أنت لترقص معه بقدم واحدة أيضاً. في النص وجع عظيم ولقد قرأته بحزن شديد، حيث شبكني بكل ما يمكن أن يقترفه المرء منا من أحاسيس خانقة، تشهد فيه نصف قرن من الزمان والمكان، ولكن بعين سارد اختار الوعي الشقي، هو هذا السارد الوجودي ذو النزعة المبتلاة بوعيها، وهنا يبدأ النص في كشف كيف يقع الإنسان في الظرف الخطأ زماناً ومكاناً، وكل معنى من المعاني الظرفية يتأتى حاملاً لنقيضه فأرامكو تخرج لنا نهر الحياة بلونه الأسود ليكون رحمة لنا من جفاف الوجود، ولكن سائق التاكسي الأمي يخرج متظاهراً وغير راض بما تحمله أرامكو من وجه آخر (ص123) والشاعر القديم يتغنى بصبا نجد ومعه رحالة أوروبي يرى في الرياض جنته وبهاء روحه، ولكن السارد لا يجد غناء الشاعر ولا رومانسية الرحالة العاشق ويرى الجحيم في الجنة (ص155 - 156) ويستمر شقاء الذات الواعية، حيث يأخذه وعيها الوجودي في تداع طويل لذاكرة تختزن أوجاعها، وتشقيك معها، حيث ترى دمها يسيل، ولا ترى فرصة لدمعها كي يتدفق، لقد حرمت على نفسها الدموع وأباحت لها الدماء لتسيل من تحت السكين وهي تسلخ الجلد علناً وأمام كل العيون، ولن تنقذ البطل حبيبته التي جاءت وسط تضاعيف النص لتكون زوجة متعلمة، وهذا عند السارد يختلف عن الزوجة الجاهلة، حيث يجري استدعاء الصورة الرومانسية العريقة التي ترى أن البسطاء والفلاحين هم السعداء، ولكنها صورة تحضر لكي تنسخ بالوعي الوجودي الذي سيقول إن المتعلمة ستشقى بعلمها ووعيها على نقيض الجاهلة التي تصدق زوجها وتسلم له بينما تلك ستخاف حتى من نسمة الهواء على جبين زوجها وستأكلها الغيرة كما هو قدر النص والسارد. يعجز السارد عن نسيان أوجاع الآخرين مثلما يعجز عن الغفلة عن أوجاع الأرض والوقت، ولذا يأخذ أولاً في سرد ذاته وحينما لا يكفيه ألم الذات يبدأ باستضافة آلام الآخرين ممن عرف أو مروا على ذاكرته، فتدخل تجارب المرحلة في الستينات وما فيها من وجع ذاتي، وكما قال نزار قباني في بيته المشهور: يا وطني الحزين حولتني من شاعر للحب والحنين إلى شاعر يكتب بالسكين، فإن النص راح يكتب نفسه ويكتب غيره بالسكين، ويجترح الدم حتى إذا لم يجد دماً يجترحه راح يستعين بالعقل الجدلي فيطرح أسئلة في المفاهيم وفي الدلالات، وأيهما أشد قسوة: هل السلطة كقوة غاشمة أم لغة السلطة كجبروت يحاصر الذات (ص121)...؟؟ لا بد أن تكون لغة السلطة أشد فاللغة هنا هي الداء مثلما هي الدواء. هذا بطل لا يعرف متى جاء إلى هذه الأرض، وهي وثيقة تأتي في وسط النص وتتكرر على الغلاف الأخير (بدلاً عن صورة الأم)، الأم التي نسيت متى جاءت بابنها وأنزلته الأرض، هل في وقت زيارة ملك السعد (سعود) أم سنة وفاة الملك المؤسس: أمك تنسى عشاها.. يا الله حسن الخاتمة.. أخرجتك من بطنها وهي فاقدة الوعي، ولم أجد سوى شيلتي السوداء لألفك فيها). يولد فيما بين فقدان للوعي ولفة سوداء تلفه وتكمم عيونه وتفوت عليه فرصة الميلاد في زمن السعد، ويبقى محملاً وحاملاً لسكينه كي يكتب شهادته (شهادتنا...!). هذا النص شهادة ثقافية عن نصف قرن رأيناه كلنا ونحاول أن ننسى، ولكن سكين معجب الزهراني لا تغفر لنا الغفلة وها هو يغرس سكينه في ذاكرة النص، وتكتب قصة فتى وضع نفسه في الظرف الخطأ، وكلما رأيت فيما بين الأوراق من فرص للخلاص حتى لتسأل نفسك ما الذي جعل السارد يبقى في شقائه ولم يفر إلى حيث يتنفس كما يشاء، كيف لم يتخلص من غلالة خالته السوداء، ولم يذهب إلى أرض السعد، وقد كانت حاضرة في النص، ولكنها تحضر كطعم يصطاد به السارد لحظات شقائه ويزيد من لعبة الاستشقاء، وهذا ما صنع النص وجعله نصاً وجودياً، مثل نصوص البير كامو، حيث تشقى الشخوص بوجودها وبوعيها بعلة هذا الظرف الوجودي الذي تفسر نفسها عليه، وإن كان الشنفري قد قال: (وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى، وفيها لمن خاف القلى متعزل) فإن البطل الوجودي لا يبحث عن الخلاص، ولكنه يأخذ الشقاء كأحد المعاني الإبداعية في قراءة للكون وللظرف، ولذا ظللنا في هذا النص نرى السارد وهو يفصل نفسه عن الأحداث ولا يتجسد فيها ولا يشخصن ذاته بل لا يحولها إلى شخصية سردية، لأن من شروط تحقق القراءة الوجودية هو قيام فاصل موضوعي يجعل الأشياء مستقلة كي تتحقق الرؤية الاستحواذية التي تعيد ترتيب الأبنية كي ترى الغلالة السوداء في لحظة الميلاد ولكي تنسى لوحة الأم في نهاية الكتاب، ولكي ترى لغة السلطة وقسوتها، ولكي ترى السلبي من تحت الناصع، ولكي تبقى في الظرف الشقي - مع أنها تملك المتعزل عنه -. لقد رحل الأجداد الأقدمون وشقوا بطون الأرض في شمال افريقيا وفي جنوب أوروبا وبقي باقون جاء البطل ليرث خيبتهم، ولو أنهم هاجروا أو هاجر هو لما صار هذا النص (ص112). وكأنه سينتهي كمجرد إشاعة عابرة تلوكها المجالس والأحاديث كحال الفارس المهاجر (ص250). رحلة القراءة في هذا النص هي رحلة في الختان العلني وفي سلخ الجلد بالسكين ومهما تدفقت الدماء فلا بأس، ولكن إياك من الدموع فإنها تسقطك، هذا قانون أنثروبولوجي عريق، وهو معنى وجودي حديث. كما إنه عنوان هذه الرواية ودليل قراءتها، حيث يرقص السارد بقدم واحدة بعد أن نسي لوحته الأخرى وأحل محلها نصاً يكشف عن لحظة ميلاد منسية. هو نص ترى فيه عياناً أن السارد استثمر لغته الذكية والحادة لكي يمارس فضح الورقة الأخيرة في دفتر المذكرات الشخصية، والعلاقة فيه هي مسافة قصيرة بين جواز سفر ووطن على خريطة أو وقفة أمام لوحة الأم وهو يهم في الخروج من منزله ويأخذ سيارة أجرة إلى المطار، وكانت هذه هي بداية النص ومفتتحه في صفحاته الأولى، ومن بعد ذلك تسيح الدماء وتتقاطر الكلمات، وتأخذك الرواية الوجودية لتجعلك بطلاً آخر تسرد النص وأنت تقرأ هذا الحزن وهذا الشقاء ولا تشعر بالملل لأن الوجع وجعك والسكين سكينك والدم دمك، ولكن لا تشفق على نفسك ولا على صاحب النص فتكرمه بدمعة، لقد اعترف النص بخياراته كلها في مناحي أوروبا، حيث شهدت تلك المناحي لحظات الاعتراف، ولكن السارد لم يشأ أن يهاجر كما هاجر الأسلاف فبقي في خياره الشقي، ولذا كان لا بد له من دفع ثمن هذا الخيار الموجع، هنا نحن نشهد هذه الرواية وقد قدمت لنا بطلها الوجودي الشقي بوعيه والشقي بخياراته، والشقي بذاكرته الراصدة لما وراء ضحكة القمر، وكما نقرأ قصص الرحالة عن الأرض والزمان فإننا نستطيع قراءة رواية (رقص) لمعجب الزهراني على أنها كتاب في الرحلات لرحالة مر بهذه الأرض وحكى قصة مروره ومشاهداته. ومهما بلغ بك الحزن وأنت تطوي الصفحات - كما صار لي - فإنك ستنتهي وقد شاهدت حفلة ختان علني عملت به السكين عملها في فصل الجلد عن الجسد ومعه سالت دماء كثيرة، هي دماؤك أنت.