يقف أبو راشد الشيخ سفاح متوتراً أمام باب منزله وهو بكامل زينته بثياب بيضاء ناصعة، وغترة بيضاء جميلة كأنها تحكي عن طول الوقت الذي قضاه المكوجي بمكواته على وجهها، يمسك بيه سبحة كهرمانية مرصعة بالزمرد والفضة ذات دناديش معدنية مصنوعة من الفضة ويضع في جيبه العلوي قلماً فاخراً يزداد بريقاً كلما تحرك وانعكست عليه الأضواء. يكرم أبو راشد ضيوفه ويهتم بهم أشد الاهتمام.. فدقته بكل التفاصيل تجعل من المناسبات والولائم التي يقوم بها بشكل دائم هي مصدر قلق وهم لأهل بيته.. فأولاده الأربعة وبناته الثلاث وزوجته أم راشد جميعهم في حالة استنفار.. لا يهدؤون حتى يأكل الضيوف عشاءهم. لم يكن الكرم الذي أصبح مصطلحا موازياً لاسمه وليد اليوم ولا اللحظة، فأبو راشد قد ورثه من آبائه وأجداده.. ولم يكن هذا الكرم المفرط يظهر فقط لأقربائه وأبناء قبيلته بل كان شاملا لكل الناس، فبيته الذي يسكنه قد خصص جزءا كبيراً منه للضيافة مفتوح بابه عن بكرة أبيه طوال اليوم بل وطوال السنة.. لم يغلق باب منزله قط منذ عقود طويلة أثناء حياة والده الشيخ راشد ومن ثم الابن الشيخ سفاح منذ أن بنى ذلك البيت الذي استضاف الآلاف من الناس وحكيت فيه القصص، وتناقلت فيه الأخبار، وحلت فيه المشاكل وأعتقت فيه الرقاب، فالمنزل بحد ذاته حياة شهدت كل شيء ولو نطق لقال الحياة كلها. يستقبل ضيوفه عند الباب ويمشي معهم حتى يأخذ لهم مقعداً مناسبا في مجلسه الكبير الفاخر الذي مزج بين التراث والحضارة ببنائه الحديث وتصميمه القديم، بالإضافة إلى القطع الأثرية التي تملأ المجلس. يوجد وجار الناس في إحدى زواياه ويجلس من خلفه ابنه الأكبر راشد الذي يعمل على إدارة الوجار بشكل احترافي ضمن قواعد وبوتوكولات محكمة لعمل القهوة والشاي، والإخلال بها يعني غضب أبيه العارم الذي لا يغتفر. يقبع عن يمينه خزانة كبيرة تراثية مليئة بكل أدوات القهوة والشاي مصفوفة على رفوفها بشكل زخرفي جميل وكأنها في متحف..يناول راشد أخويه دلة القهوة وإبريق الشاي بشكل متتابع وتلقائي حسب الطلب فكل ضيف جديد يحتاج إلى قهوة بعد أخذ حبات من التمر ثم الشاي وهكذا دواليك. يقوم الابن الرابع للشيخ سفاح على مسئولية إعداد الطعام والإشراف عليه بشكل يعرف تماماً أنه يروق لأبيه، ويكون اتصاله مباشرا مع أمه وأخواته الثلاث لصف السفرة وتقديم الطعام على الشكل الأمثل. يصل أبو مطني الضيف الأهم الذي اقيمت له الوليمة من أجله، حيث التقاه الشيخ سفاح لأول مرة دون سابق معرفة ضيفاً عند أحد أصدقائه فأقام هذه الوليمة إكراماً لضيف صديقه. يقف الشيخ سفاح في وسط المجلس وعلى وجهه ابتسامة جميلة ينظر إلى جميع الضيوف ببشاشة وتودد وكأنهم أصحاب معروف لأنهم لبوا دعوته، يرحب بهم جميعاً بصوت عال جهوري، فيبادلونه التحية بمثلها وسط أصوات دقات فناجين القهوة بالدلال أثناء تقديم القهوة.. ويحيي بعض ضيوفه بصوت مرتفع وبشكل خاص ضيفه أبو وليد، لإعطائه أهمية أكبر عن أحواله وشئون حياته ليختم أسئلته بترحيب حار، ويبين له أن هذا اليوم هو اليوم المبارك الذي حل فيه ضيفاً عليه. يمر كل شيء كما يريد الشيخ أبو راشد وكما كان يمر أيام والده وكما تعود أبناؤه عليه، وكأن الولائم التي يقيمها أبو راشد لكل ضيف وكل مناسبة تعيد نفسها حتى مذاق الطبخ أصبح مألوفاً ومعروفاً بنكهته ورائحته.. يشير ابنه الرابع إشارة غير ملحوظة كانت كافية للشيخ سفاح بأن يرفع صوته فجأة ويدعو الجميع إلى تناول طعام العشاء.. فيحيي بهم وهم على المائدة بصوته الجهوري وبكل فخر واعتزاز ونشوة كرم عارمة تستلذها كل جوارحه وأحاسيسه وهو يسمع ردود ضيوفه بالدعاء له بالرزق الوفير. تقف أم راشد زوجة الشيخ سفاح أمام مائدة الطعام بعد أن قام الضيوف من عليها وتنظر إلى البقايا والصحون التي تحتاج إلى ساعات لغسيلها وكأنها تندب حظها وتنظر إلى بناتها بعين آسفة: - يا وليدي.. يا عل ما حظكن مثل حظي.. - ترد ابنتها الوسطى نوف مؤازرة أمها: - يمه.. ليه أبو ما يجيب لنا شغالة؟ تقاطعها أختها الكبر نايفه - نوف.. تعوذي من ابليس.. لو يسمعك أبوي ذبحك.. وخلينا نجمع باقي الأكل.. ذبحنا الجوع.. لنا ثلاثة أيام ما عندنا أكل!.