تبقى الموائد والأطعمة وأنواع المأكولات والأشربة شاهدة كغيرها على وجود الإنسان بمختلف حضاراته وتعدد أعراقه، ولا أدل على ذلك من الموجودات والأحافير التي يعثر عليه الآثاريون بين الحين والآخر، كما تشير بذلك التنقيبات الآثارية والدراسات الاجتماعية. وتكاد الأكلات القديمة في جزيرة العرب تنحصر في عدة أصناف تتقارب في مذاقها ومطعمها وتختلف في مسمياتها وطريقة إعدادها، وليس هذا مقصوراً على المناطق والأقاليم، بل يتعداه إلى الموروثات التاريخية، فالأكلات والأطعمة قبل عدة عقود في كل من نجد والأحساء والأجزاء الشمالية والجنوبية من المملكة ما عدا الحجاز، هي ذات الأطعمة قبل أكثر من ألف عام. وهذا عائد لطبيعة الأرض وأنماط الحياة والثروة الحيوانية، فالطعام العربي في القديم لا يخرج عن ثلاثة أو أربعة أصناف «التمر» و»اللبن» و»اللحم» و»السويق»، ولا يكاد الكرم العربي أن يتجاوز هذه الأصناف من مبدأ أن «الجود من الموجود»، ورغم ذلك ظل العرب متربعين على عرش الكرم العالمي بشهادة الشرق والغرب. «أكلات تركية» نقلت بأسماء أصحابها مثل «داود باشا» و«أم علي» و«بابا غنوج» موائد شعبية وبنظرة سريعة إلى الموائد الشعبية في المملكة سنقف أمام أصناف تختلف في مسمياتها وطريقة إعدادها، وتحضيرها وتتقارب في مصادرها من "القمح" و"الحنطة" و"التمر" و"اللبن" و"اللحم"، إلى جانب "الجريش" و"القرصان" و"المرقوق" و"المطازيز" و"المراصيع" و"العصيدة"، بالإضافة إلى "العريكة" و"الفريك" و"الكوزي" و"المنسف" و"الحنيني" و"المظروبة" و"الهريس"، وغيرها من الأطعمة التي جمعها ذلك الشاعر الجائع بقوله: اضرب بخمسك لا تأكل بملعقة إن الملاعق للنعماء كفران بالأمس قمت على المرقوق أندبه واليوم دمعي على القرصان هتان هذا الجريش طعام لا مثيل له عليه من مستهل السمن غدران وليترك الإجابة لدى شاعر شعبي أضناه السهاد وأعياه الغرام ليجتمع في جوفه لهيب الهوى وحرارة الجوع، فيقول: يا ليت قلبي لك عصيدة ومرقوق والروح لك خبزه وحبي لك إيدام وإن كان نفسك تشتهي بيض مسلوق هذي عيوني لك مقلقل من العام والكبد محموسة على الشوق مرقوق أما الحلى أنت الحلى وسكر الشام القهوة والأرز وإن كانت القهوة والأرز منتشرة في أقاليم المملكة منذ عدة قرون، إلاّ أنها لم تكن حاضرة في الكرم العربي القديم قبل ألف عام، وذلك لكون الأرز محصول مستورد لا يزرع في الأرضي العربية، وكذلك حال الشاي، أما القهوة فلم تكتشف إلا قبل بضعة قرون رغم وفرتها في اليمن وجنوب الجزيرة العربية، غير أن العرب لم يعرفوها إلا في مرحلة لاحقة، لذا كثر ذكرها في القصائد الشعبية ولم ترد في الشعر الجاهلي أو شعر صدر الإسلام، ولا أدل على ذلك من قصيدة ابن قاضي في القهوة: يا ملّ قلب كل ما إلتم بالإشفاق من عام الأول به دواكيك وخفوق أحمس ثلاثٍ يا نديمي على ساق ريحه على جمر الغضا يفضح السوق إلى أن يسهب في وصف إعداد القهوة ثم يتحول إلى الغزل ببيان ساحر وشعر آخاذ. «الأرز» لم يحضر في الموائد لأن أماكن زراعته بعيدة.. و«القهوة» عرفت قريباً تنوع الأطعمة مع انتشار العرب في أصقاع العالم الإسلامي واندماجهم مع الحضارات والأعراق المختلفة تعددت مآكلهم وأصناف موائدهم، فصاروا يأكلون "الفالوذج" و"اللوزيبخ"، والأول نوع من الحلويات يصنع من الدقيق والسكر والسمن والعسل، والثاني خبز يسقى بزيت اللوز ويحشى بالجوز، وهي أكلات باهظة الثمن، فقد روى المؤرخون أن "هارون الرشيد" كان يحض ضيوفه على "الفالوذج"؛ معللاً ذلك بعدم توفرها على مائدته كل يوم، رغم أن عصر "الرشيد" وصف بأنه أزهى العصور وأكثرها رخاءً وأمناً وأرخص في المعيشة، بل وصفت أصناف الأطعمة التي تحتويها مائدته بأنها تربو على الثلاثين صنفاً من الطعام. كما عرف العرب بعد تحضرهم وانتشارهم في البلاد أنواعاً من الأطعمة ك"السمبوسة" و"الكباب" و"الكبة" و"الزلابية"، بالإضافة إلى "الهريسة" و"القطائف" و"الكنافة" و"الكليجة" و"خبز التميز" -الذي وفد من بلاد ما وراء النهر-، ووصفه ابن بطوطة في رحلاته، وذكر أن أهالي وسط آسيا يطلقون على الخبز مسمى "تميس" بالسين أو بالزاي، كما ذكر "بديع الزمان الهمذاني" في المقامة البغدادية - وهو ممن عاش في القرن الرابع الهجري-، بعض أصناف تلك الأطعمة والمأكولات في بغداد، التي يطول الحديث عن موائدها بطول "سماط" الخليفة آنذاك. المأكولات القديمة لازالت تجد إقبالاً إلى اليوم المائدة البغدادية وكانت المائدة البغدادية في القرن الثالث والرابع ممزوجة بالأكل العربي والفارسي، إلى جانب الكردي والتركي، بل لقد تكرر الأمر ذاته في القاهرة أبان القرن السادس والسابع، وفي اسطنبول في القرن التاسع والعاشر، فعرفت المائدة العربية أكلات تركية نقلت بأسماء أصحابها من الطهارة والسفرجية أو حتى بأسماء السلاطين والأمراء، مثل "داود باشا" و"باباغنوج" و"يوسف أفندي" و"أم علي"، والأخيرة نوع من الحلوى وزعتها زوجة السلطان "عز الدين أيبك" المعروفة ب"أم علي" على أهالي القاهرة عام (655) ه، بعد أن تخلصت من غريمتها "شجرة الدر"، والتي توفيت ضرباً ب"القباقيب"، وهي تختلف عن "أم علي" اللبنانية التي اتخذت من قصة الخليفة الراشد "عمر بن الخطاب" -رضي الله عنه-، حين وجد في إحدى الليالي وهو يتفقد أحوال العامة امرأة تغلي الماء على مرجلٍ لها كي تسكت أطفالها الذين يتضورون جوعاً، إلى أن أمدها بالدقيق والسمن والتمر والسكر، وجلس مع خادمه يطبخ العشاء حتى قدمه لهم، فقالت له المرأة: "والله إنك لخير من عمر وما تدري أنه عمر". سيدات يجهزن وليمة احدى المناسبات وصف الأطعمة لم يقف العرب في آدابهم وأغراضهم الشعرية على الفخر والغزل والمديح، بل تجاوزوا ذلك مع انتشارهم في البلاد وتحضرهم، إلى وصف الأطعمة والأشربة والموائد حتى يخيل للقارئ لبعض قصائد "ابن الرومي" أو "صفي الدين الحلي" أنه أمام موسوعة حديثة من كتب الطبخ والطهي، فهذا "محمود بن الحسين" المعروف ب"كشاجم"، وهو من شعراء العصر العباسي في القرن الرابع الهجري يصف القطائف، وكان ممن يجيد طهيها وإعدادها يقول: عندي لأصحابي إذا اشتد السغب قطائف مثل أضابير الكتب قد مج دهن اللوز مما شرب وابتل مما عام فيه ورسب وجاء ماء الورد فيه وذهب فهي عليه حبب فوق حبب وقال "إسحاق الموصلي" وهو من شعراء القرن الثاني الهجري واصفاً طريقة إعداد "السنبوسك" أو "السنبوسة" في العصر العباسي الأول: يا سائلي عن أطيب الطعام سألت عنه أبصر الأنام اعمد إلى اللحم اللطيف الأحمر فدقه بالشحم غير مكثر واطرح عليه بصلاً مدوراً وكرنباً رطباً جلياً أخضر وبعده شيء من القرنفل وزنجبيل صالح وفلفل وكف كمون وشيء من مري وملء كفين بملح تدمر فدقه يا سيدي شديداً ثم أوقد النار له وقودا فلفه إن شئت في رقاق ثم احكم الأطراف بالإلزاقِ وصب في الطابق زيتاً طيباً ثم اقله بالزيت قلياً عجباً وضعه في جام له لطيف ووسطه من خردل حريف وكله أكلاً طيباً بخردل فهو ألذ المأكل المعجل لا يرى للقطائف بديلاً! أما بائع الهريسة "البسبوسة" فقد كان يجوب شوارع بغداد والصبية والغلمان يلاحقونه وهو يغني: ألذ ما يأكله الإنسان إذا أتى من صيفه نيسان وطالت الجديان والخرفان هريسة يصنعها النسوان ويشتهيها الأهل والضيفان لها على أضاربها السلطان تصفو بها العقول والأذهان وتنتفع بأكلها الأبدان أما الشاعر العباسي "أحمد بن يحيى" فلا يرى للقطائف بديلاً، سيما إذ حشيت باللوز والسكر حيث يقول: قطائف قد حشيت باللوز والسكر الماذي حشو الموز تسبح في آذي دهن الجوز سررت لما وقعت بحوزي و"فوز" هي عشيقة شاعر الغزل المشهور "العباس بن الأحنف" إذ شبه الشاعر فرحه ب"القطائف" بفرحة "العباس" بقرب عشيقته "فوز"، وكانت "الخبيصة" و"المضيرة" و"الجوذابة" أكلات مشهورة متداوية حرص كثير من الشعراء المتقدمين على وصف كيفية إعدادها وطهيها عبر قصائد هي أشبه ببرامج الطهي، وكتب الطبخ ولا أدل على ذلك إلا "أرزي" وهو شاعر عباسي فقير من عامة الناس، كان صاحب مخبز بسوق "المربد" بالبصرة، يُعد فيه خبز الأرز فسمي به، وكان شرفاء بغداد وعلية أهلها يجتمعون عند مخبزه، ويحتملون دخان تنوره ولهيب ناره، ليستمعوا لجميل قصائده ومستحسن أشعاره وهو يخبز للناس ويغني لهم وسط الشتاء القارس وذلك عام 330ه، وكان "أرزي" معاصراً ل"أبي الطيب المتنبي" و"أبي فراس الحمداني"، ولكنهم كانوا من شعراء البلاط السلطاني، وهو من الشعراء الشعوبيين الذين يقرضون الشعر ولا يبالون بتدوينه، ولولا أن بعض شباب ذلك الزمان حرصوا على تدوين ما يقوله ويتغنى به وإلا لضاع معظم شعره، فقد كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ويوجد في معهد المخطوطات بالجامعة العربية نسخة مصورة من ديوانه الذي جمعه له أولئك الشباب بالبصرة، كما ذكر الأديب الراحل الدكتور "شوقي ضيف" مؤلفات وكتب وعلى الرغم من أن معظم قصائد "أرزي" التي كان يتغنى بها أمام زبائنه قصائد غزلية، إلا أن أشعاره وجدت اهتماماً منقطع النظير من قبل الرواة والأدباء في زمانه حتى لقد عارضه أحد الشعراء الشعبيين المعاصرين بقوله: يا ليتني في حارة الزين خباز أسابق المذن وأسوي عجينه وأكبر المرهاف ما دام يعتاز وأمد له خبزي وألمس يدينه وأولع التنور وأرفع على الغاز لو احترق خبزي فدوة لعينه ولم يقف أدب الموائد عند الشعراء فقط، بل قد صنف كثير من العلماء والأطباء في العصور المتقدمة مؤلفات ضاع منها الكثير، وبقي منها بعض المخطوطات في برلين ولندن وباريس، كما طبع البعض الآخر منها بكتب منشورة ومعتمدة ككتاب (الطبيخ) ل"ابن سيار البغدادي"، وهو كتاب طبي يتحدث فيه مؤلفه عن فوائد الطعام ومنافع النبات والأغذية وأضرارها، وسبل النظافة وطرق إعداد الوجبات، كما ألف الشاعر "محمود بن الحسين" صاحب القصائد المشهورة في الأطعمة كتاباً آخر، وصف فيه أطعمة زمانه، أما "ابن جزلة" فقد وضع كتابه (مناهج الدكان فيما يستعمله الإنسان من منافع الأغذية ودفع المضار)، وهو كتابٌ طبي رفيع الشأن، أما "بدر الدين الغزي" فقد دوّن كتابة (آداب المؤاكلة) ليصور لنا جانباً من الحياة الاجتماعية في عصره، كما ينفرد معاصره "أبو بكر السيوطي" في كتابه الطريف اللطيف الذي سماه (منهل اللطائف في الكنافة والقطائف)، وعنوان الكتاب ينبئ عن مضمونه. خبز التنور مذاق مختلف الكرم والضيافة عرف العرب آداب الضيافة والطعام، بل وتنافسوا على إكرام الضيف وإعانة وإيواء المنقطع وابن السبيل في جاهليتهم، لحين نزلت تعاليم الهدى الإسلامي في إكرام الضيف وإطعام الطعام، ممثلةً بالآداب النبوية السامية في التعامل مع المطعم والمشرب، فكان من هديه صلى الله عليه وسلم أنه أمر بغسل اليدين قبله وبعده، وإذا وضع يده في الأكل قال: "بسم الله" وإذا فرغ قال: "الحمد لله"، وكان عليه الصلاة والسلام يأكل بثلاثة أصابع ويلعق يده قبل أن يمسحها، ولا يأكل متكئاً، وما عاب طعاماً قط، إن اشتهاه أكله وإلا تركه، والأحاديث في الآداب النبوية حول الطعام متواتر تناقلها أمهات الكتب، وقدمت لها الرسائل المتخصصة والندوات العلمية. وكان الإسلام قد أقر كثيراً من آداب الكرم والضيافة عند العرب بل زاد في كثير منها، وقنن وضبط بعضها كالإسراف والتبذير أو الإطعام من مال الغير دون علمه. ذكر "الأبشيهي" في كتابه (المستطرف من كل فن مستظرف) أن العرب لم يعرفوا بتلوين الطعام، مبرزاً ما كانوا عليه من الكرم وحسن الضيافة، ومفرداً مساحة واسعة من كتابه للحديث عن آداب الموائد عند العرب، وضرورة أن يتحلى الضيف بالبشاشة وبسطة الوجه والطلاقة، إلى جانب إطالة الحديث عن المؤاكلة، وألا يشكو المضيف الزمان بحضور ضيوفه، ولا يحدثهم بما يروعهم، بل يسعى لخدمتهم، مظهراً لهم الغنى والسعة، وكأنه هو الضيف لا المضيف كما قال الشاعر: يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا نحن الضيوف وأنت رب المنزل وكان "علي بن الحسين" رضي الله عنهما يقول: "من تمام المروءة خدمة الرجل ضيفه كما خدمهم أبونا إبراهيم الخليل" صلوات الله وسلامه عليه بنفسه وأهله. رجال يُعدون أكلتهم المفضلة قديماً «عزايم زمان».. البسطاء ينتظرون الدعوات! في أزمنة الشح والفاقة، وفي ظروف صعبة من العيش اللاهث خلف كائنات الصحراء.. "نركض ومن صاد الجراده شواها" تكون الوليمة، أو "الموجبة" -كما اصطلحوا عليها- حدثاً استثنائياً في حياة الفرد يفرح به، وينتظر موعده بلهف وشغف وكأنما ينتظر قبلة على ثغر حبيب يطفىء من خلالها لواعج حبه، ووجده، وصبابته، ذلك أن "الدّسم" ويسمونه كذلك كناية عن اللحم هو في حياتهم حلماً مترفاً وباذخاً لا يطالونه إلاّ في عيد الأضحى، أو في الأعراس الكبيرة. وإذا حدث وجوده في أي ظرف فذلك حديث يُتناقل، وزمن يحفر في الذاكرة الجمعية وقتاً طويلاً. و"الوليمة" أو "العزيمة" أو "الموجبة" -تعددت الأسماء والفرح واحد- إذا حدثت في المكان الاجتماعي، قرية، أو حي، فإنها حدث يلغي تماماً كل ما سواه من أحداث، فعزيمة "آل فلان" وكم سيذبحون من رأس غنم في هذا اليوم، ومن هم سعداء الحظ الذين سيتواجدون كمدعوين..؟، وأسئلة نحو هذه ستكون هي الطاغية على أحاديث الناس، وحياتهم اليومية. يُستنفَر المنزل المعني بالمناسبة قبلها بأيام، ويدب فيه نشاط وحركة يأتيان على كل قوانين البيت، وأسلوب حياته طوال الأيام، وتكسر الرتابة في التنظيف، واستكمال المستلزمات، وتجميل التشوهات التي أحدثتها عوامل الزمن والطبيعة، فالمظهر الذي يسر الناظرين مهمٌ بقدر ما يهم أن يخرج الناس وهم في حالة رضى عن الطعام مذاقاً ووفرة ودسامة، وقبل ذلك بشاشة وترحيباً يعكس قيمة الكرم. أما المدعوون فإنهم يعدّون أنفسهم، ويهيئون ظروفهم للاستمتاع بلذيذ المأكل والمشرب، فمناسبة مثل هذه لا تتكرر سريعاً، ولا كثيراً، وربما تمضي سنون قبل أن يحدث مثلها، ويجلسون إلى المائدة وفي ذهنهم قانون طقسهم "كل أكل جمال وقم قومة رجال" وهذا سلوك أو "إتيكيت" متعارف عليه ومتبع ليفسحوا الأماكن لغيرهم ممن ينتظر. ..وآخرون يتناولون الطعام