إذا كانت الشجاعة فضيلة بين رذيلتين.. رذيلة الجبن ورذيلة التهور، فإن الكرم أيضا فضيلة بين رذيلتين رذيلة البخل ورذيلة الإسراف.. لكن هل نفهم نحن السعوديين هذه الشيمة النبيلة بهذا المعنى؟. هذا ما سيحاول أن يُجيب عليه هذا التقرير.. الذي لن ندّعي أنه سيعالج تلك العوالق الشكلية التي أنشبت أظافرها بالكرم وهو منها براء.. قدر ما يستعرض علاقتنا بالكرم وطقوسه وأدبياته، ويجيب بنفس الوقت عمّا إذا كنا نستخدمه، أم أنه هو من يستخدمنا؟ هل نمارسه إرضاءً لذواتنا بشيء من النرجسية، أم ترجمة لمشاعرنا العاطفية؟.. هل يخرج الكرم من نفوسنا أم من بين كفوفنا؟. أسئلة وأسئلة كثيرة يقطر بعضها بعضا. كلها تصب في خانة واحدة وهي محاولة التقاط تعريف مقنع للكرم في الزمن الراهن بين رذيلتي البخل والتبذير. ٭٭٭٭ وفي البدء يجب أولا أن أسجل اعترافا أمامكم، وهو أنني أضع يدي في عش الدبابير حينما أتصدّى لموضوع كهذا، وأنا ابن منطقة شاءت ظروف جغرافية وتاريخية وأنثروبولوجية بإرادة الله أن تضم رفات رجل هو مضرب المثل في الكرم في كل ثقافات الدنيا، وهذا ما سيجلب لي سخط هذا الراقد في قبره في قرية (توارن)، مثلما سيغضب قومي ممن شربوا من أثداء أمهاتهم حليبا غشه حاتم الطائي بدم جواده المراق لضيوفه الجياع !. لكن السؤال: هل لا زلنا نعيش نفس المعطيات التاريخية والاقتصادية والاجتماعية التي رفعت أسهم تلك القصة الشهيرة لتذهب بكل هذا الصيت المدوّي إلى كل ميثيولوجيا التراث العالمي من الهند إلى الصين إلى ثقافات أمريكا اللاتينية؟. هل يجوز أن نجتر نفس السلوك الذي استخدمه حاتم الطائي في أوائل القرن السابع الميلادي إلى القرن الحادي والعشرين على أنه الوصف الوحيد للكرم؟. يبدو أنني أمعنتُ في طرح التساؤلات، لكني على يقين أن الأسئلة هي التي تملك المفاتيح، هي التي تستطيع لمّ شتات الأذهان لتنفك من آلية التطبيق وشرك التقليد لتصل إلى التمعن. ما هو الكرم؟ لستُ في وارد تقديم تعريف محدد لهذه الشيمة الأصيلة التي لا شك أنها محل حفاوة الجميع، لأن التعريف ربما يُعيدنا إلى التسليم بفكرة القوالب الجاهزة التي نحاول أن ننفك منها، لكني سأكتفي بتلك العبارة التي افتتحتُ بها هذا التقرير، وهي ليست من عندياتي.. فلعلني قرأتها في أحد كتب الدكتور غازي القصيبي.. إذن لنتفق على أن الكرم فضيلة ولا أيّ فضيلة ولكن بين رذيلتين رذيلة الشح ورذيلة الإسراف.. أعتقد أنها المنطقة الوسطى التي تتناغم مع مفهوم الأمة الوسط.. غير أن ما يحدث اليوم باسم الكرم يتجاوز في تطرفه للبطون كل هذه المفاهيم. إذن تعالوا لنوصّف فالتوصيف ربما يكون أكثر قدرة على التدليل إلى أيّ جهة أخذنا الكرم، بعد أن نزعنا عنه رداءه العاطفي، وألبسناه من الشكليات والمباهاة الاستعراضية ما أحاله إلى مخلوق مختلف لا هو شرنقة ولا هو فراشة، فلا هو الكرم، ولا هو ابن عمه، وإنما هو في أبسط توصيفاته عرض مادي مشغول لما تنتجه حظائر الأغنام، والمطابخ العمومية، ومحلات الخضار والفواكه والسوبرماركت ومتاجر الحلويات. توصيفات تدعو أحدهم باسم الكرم إلى وليمة تقيمها على شرفه، تلحّ عليه لترضي في داخلك شيئا من غرور التمسك بهذه الشيمة، وحين يوافق (ربما على مضض) يتمّ إعلان حالة الطوارىء في المنزل في وقت مبكر.. قد تندهش من حجم الأواني والطناجر التي تملأ المطبخ والممرات، لا تعرف من أين جاءت، قد تتعثر ببعضها في أوج توترك لتأخر الضيوف لاحظ أنهم لم يتأخروا لكنك تشعر هكذا لأنك معني بتلك الأطباق الملونة وسخونتها وطريقة تقديمها أكثر من عنايتك برسم ابتسامة على محياك كأهمّ واجب من واجبات الضيافة ، قد تجري أكثر من اتصال على المطبخ لتتأكد من أن الطباخ البنغالي لم ينس تعاقدك معه. يتوافد المدعوون الواحد تلو الآخر، الأهل والجيران والأصدقاء، ثم يصل الضيف المحتفى به، وفي أحيان كثيرة هو لا يعرف أيّا من المدعوين، فيذبل الحديث شيئا فشيئا بعد ترديد بعض المجاملات في ظل انشغالك من حين لآخر في تفقد العرض ما قبل الأخير للوليمة، وهنا بودي أن أطرح سؤالا : هل نحتفي بالضيف في هذه الحالة أم بشكل الوليمة؟ لا أريد جوابا، ولنمض في التوصيف، يتململ الضيف ربما، وقد لا يجد رغبة في الحديث بين مجموعة لا شيء يربطهم سوى هذا الطعام الذي سيقدم لهم بعد قليل، تكرر الترحيب وتردد بعض تلك العبارات المضللة ك (القدر بالصدر) !!، وأنت غارق حتى أذنيك في تعبئة الأوعية !، ثم تدعوهم إلى الفريسة أقصد الوليمة حيث لا فرق، والتي قد لا يستطيع بعضهم الوصول إلى مائدتها الرئيسية بفعل تمدد أطباق الحلويات الملونة، والأكسسوارات المصاحبة، والتي ستحضر رغما عن أنف الجميع حتى وإن كان كل الضيوف يشربون الشاي بالسكرين نتيجة إصابتهم بداء السكري.. هذه طقوس لا مفر منها. وهنا نستبعد قليلا أصحاب البوفيهات.. فحكايتهم حكاية. وحين يفرغون يغسلون أيديهم ويتجشأون قبل أن يفروا كسرب طيور باغتها انفتاح باب القفص. مشهد ثان في قصر الأفراح يتكرر المشهد على نحو تشعر بأنه أحد أهمّ أسباب نفاد الثروة الحيوانية، عشرات الخراف، ومئات الأطباق، وأطنان من الفواكه والحلويات وكأننا لا نعرف كيف نحتفل إلا بالطعام أو لعله نوع من التعويض عن فقدان آلية الاحتفال التي تمنح تلك الزيجات معناها الحقيقي المتصل بمفردة (فرح). وفي الصباح لو تسنى لك المرور أمام صناديق القمامة الملاصقة فستقفز إلى ذهنك شئت أم أبيت صور أولئك الأطفال العراة في أثيوبيا وكينيا وتشاد وغيرها، بعظام أقفاصهم الصدرية الناتئة، وسيقانهم الذابلة إلا من العظم والجلد، تشعر أن تلك القطط أكثر حظا منهم، فقط لأنها ولدت بجوار قصر أفراح سعودي، لا تزال تُرتكب فيه هذه الحماقات باسم حاتم الطائي وتراثه، عندها قد تتمتم بسؤال صغير : ماذا فعلت بنا يا أبا عبد الله؟. مشهد ثالث مناسبة عامة.. خيام عملاقة تضرب أطنابها على قارعة الطريق، يؤمها الناس من كل حدب وصوب، ومشهد (الصينية) الضخمة التي يربض عليها جمل ناضج بكامل بدنه، تحيط به الخراف كشرائح الباذنجان لن يكون مشهدا شاذا ولا غريبا، فهو جزء من ميثيولوجيا الكرم. تقرأ سورة الغاشية من منتصفها : (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت)، تتأمل هذا الجمل البارك في منتصف الطبق العملاق فينقضّ على ذهنك كالنسر الجارح مشهد أبي عبد الله وهو يشحذ شفرته ليذبح فرسه، تحاول أن تجمع بيديك أطراف هذا التاريخ عبر أكثر من أربعة عشر قرنا، بكل ما فيه من المتغيرات، تشعر أنك أمام نفس المائدة الأسطورة، بنفس المكان، بنفس التاريخ، لم يتبدل شيء سوى أن حاتم ذبح (مركوبته) أما نحن فلا نذبح السيارات لإطعام ضيوفنا.. هذا كل ما في الأمر!. مشهد أخير مشهد رابع وخامس وسادس، وتتكرر المشاهد، والصورة واحدة، صورة (زوم) لذات الكرم الذي وضع حاتم الطائي حجر أساسه قبل أكثر من (521950) يوما، وفي وقت ما كان بوسعه أن يأخذ ضيوفه إلى مطعم أو فندق مجاور، ولا أن يقدم لهم الموجود وفق قاعدة (الجود من الموجود)، لأن قيم الصحراء آنذاك لا تعرف ترف الفنادق، ولا تتيح في الأساس غير تلك الصيغة، لأن مفهوم الكرم كان لغة حياة، تفرضها واقعات الصحراء الكفيلة بقتل كل العابرين فيها جوعا وظمأ إن لم تكن هنالك آلية في التقاليد والأعراف تضبط إيقاع علاقات العابرين بالمقيمين، وتضمن لهم القدرة على مواصلة الترحال في أفيائها دون الخوف من الموت. كانت صيغة الكرم تلك بنت وقتها وظروفها، وحتى مسألة ذبح الجواد التي ذهبت مثلا.. هي لا تخرج عن هذا المعنى لأنها وإن كانت حفظا لماء الوجه أمام الضيوف، فهي أيضا استجابة عاطفية راقية لاستحقاقات حاجة ملحة، بمعنى أنها ليست ترفا، ولا مجرد حالة نزق لطلب الصيت. هل نحتفي بضيوفنا أم بموائدنا؟ والآن وبعد أن نزع الكرم جلده، وعاد إلى الوراء وما وراء الوراء ليتشبث بالطائي كأمثولة حية لا كرم إلا بطريقته.. رغم كل هذه المتغيرات، حتى طاول الإسراف والتبذير. هل يجوز أن يأخذ نفس التسمية؟. كل الذين يُمارسون الكرم بهذه الطريقة الباذخة يعرفون أن معدة الضيف أيا كان لا يُمكن أن تستوعب دجاجة فضلا عن كبش أقرن أملح أو بعير أوضح.. ويرددون (القدر بالصدر) فيما هم يسرفون في ملء المواعين، ويزفون بناتهم وهم يُرددون (لو هي ذبيحة ما عشتك) !، كل شيء بمعنى أو بآخر يرتبط بالأكل، وكأن جدري المجاعة لا يزال يترك ندوبه الغائرة في النفوس. حتى البلديات والأمانات انساقت دون أن تعي خلف هذا المفهوم (الطعامي)، حينما لم تجد ما تزين به ميادين المدن والشوارع إلا أواني الطبخ والقهوة والشاي، وكأننا الأمة الوحيدة التي تمتلك مواعين الطبخ و(معاميل) الضيافة. غير أن الأكثر إدهاشا فيما يتصل بربط الكرم عضويا بالأكل، هو أنك قد تجد بسهولة من يولم لك، ويُصر على ذلك، وقد يرى أن ما يُقدمه أقلّ من حقك، لكنه سيكون أقلّ حماسا في غير ذلك. لذلك يجب أن ننتهي إلى ما بدأنا به من الأسئلة : هل الكرم مجرد مأدبة؟ هل هو ذبيحة وملحقاتها ومبخرة (وأنعم الله عليكم)؟.. أم أن هذه الماديات مجرد تعبير يمكن أن تتبعه عشرات التعبيرات الأخرى كبشاشة الاستقبال، والمبادرة في الخدمة وحسن المعشر، والصدق في المشورة، والبسمة في وجه الغريب إلى آخر سلم القيم التي لا تنفصل عنه. ثم ألا يعني ترك حرية اختيار المدعوين للضيف أو بعضهم على الأقل معنى ما من معان الحفاوة به؟، بدلا من جعله غريبا بينهم يأكله الصمت وتفترسه العيون؟. كلنا في صف الكرم غير الطقوسي، في صف الكرم الذي يسوق الحفاوة الحقيقية في جو حميمي.. فهل يدفعنا هذا لإعادة قراءة مفهوم الكرم بمنطق يتفق مع روح العصر، خصوصا وأن أيّ ضيف لن يعضه الجوع والمطاعم بكل فئاتها تملأ شوارعنا من مطاعم الكبسة إلى مطاعم السوشي، وأن جوعه إلى كرم الاستقبال سيكون أكثر من جوعه إلى مائدة قد لا يستطيع أن يصل إلى بعض أجزائها. هل نمزق الأقنعة؟.. فنكتفي باليسير من الموائد لحساب دفء كرم النفس والعاطفة. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وأختم بأني (.... من غزية إن غوت.. غويت وإن ترشد غزية أرشد) والسلام عليكم.