تذكر كتب التاريخ والأدب أنه على الرغم من صرامة الطقوس والآداب التي كانت عليها موائد الخلفاء والسلاطين في عصور الحضارة الإسلامية، إلاّ أن جملة من الطرائف والنوادر ما كانت لتغيب عن الموائد السلطانية، حيث يذكر المؤرخون منها أن "سليمان بن عبدالملك" كان يضع الدجاج المشوي في أكمامه بعد أكل الوجبة ليأكل منها إن هو جاع، وقد مرّ الزمان وضربت الأحداث ضرباتها وسقطت "دولة بني أمية" وقامت "دولة بني العباس"، وفي عهد الخليفة العباسي الخامس "هارون الرشيد" كان "الأصمعي" يقُص على "هارون" قصة "سليمان بن عبدالملك" مع الدجاج، فلم يصدق "الرشيد" وأمرَ "الخازن" أن يأتيه ببعض ثياب سليمان المُخزّنة في دار الخلافة، فلمّا قدِم بها "الخازن" وجد "الرشيد" آثار الدهن على أكمامها؛ فتعجّب وأهداها للأصمعي الذي راح يزهو بها ويقول لمن سأله عنها، هذه ثياب "سليمان بن عبدالملك" التي أهدانيها هارون الرشيد. بل يذكر المؤرخون أن الخليفة العباسي الأول "أبوالعباس" - السفاح - كان أكثر المائدة الحجازية متنوعة ولذيذة، نجد «كبسة لحم»، الأحساء «هريس ومكبوس»، الجنوب عريكة وعصيدة بالسمن والعسل الناس سروراً إذا حضر الطعام، فكان بعض جلسائه يؤخّرون طلباتهم حتى تحضر المائدة، بل قيل إن مائدة "الرشيد" تحوي أكثر من ثلاثين صنفاً من الطعام، كما كان ابنه المأمون يشاهد "السفرجية" وهم يقدّمون أصناف الطعام، فيصف علاج كل صنف على حدة، ولأن المائدة وأدب الموائد حظي عند العرب والمسلمين بنصيب وافر من الطقوس و"البروتوكولات" والآداب، فلا غرابة أن تشاهد ل"أدب الموائد" نصيبٌ وافر من إرثنا الحضاري والأدبي. «عزايم الحارة» تجمع «قلوب الطيبين» على مائدة «الجود من الماجود» آداب الموائد عرف العرب أدب الموائد من خلال مروءاتهم المُتمثّلة في السخاء وإكرام الضيف وإطعام الجائع وابن السبيل، وكانت هذه المحامد من مفاخر الإسهاب وعُلّو الجناب عندهم، حتى إنهم كانوا يتسابقون إليها، ويتواصون بها ويلتزمون بفضائلها وشرف إقامتها، إذ لطالما سارع العربي إلى إيقاد النار على رؤوس الجبال، وترك لكلبه الوفي حرية التنقل بين طرق القوافل، للإخبار عن الضيوف والمسافرين، وحينها تبدأ المراسم و"البروتوكولات" التشريفية، من إفساح المكان الواسع للضيف والبشاشة في وجهه، حتى أن "قوقل" - وهو لقب لرجل من الخزرج يسمى أبناءه بالقوافل ومنهم صحابة أجلاء - كان معروفاً بكرمه ونجدته، وكان إذا حلّ به الضيف أو استجار به رحب به وقال: "قوقل حيث شئت"، أي سِر حيث شئت، فالدارُ دارك وأنت آمن مجازٍ -بإذن الله-، وكان مشهوراً بكرمه وحسن ضيافته. ومع بزوغ نور الرسالة المحمدية، أقرّ - عليه الصلاة والسلام - آداب العرب في الضيافة والكرم، حتى أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه"، والأحاديث في سياق آداب الطعام وإكرام الضيف كثيرة، ومنها عرفت البشرية محاذير الطعام والشراب كالنهي عن النفخ في المأكل والمشرب، أو أن يؤكل الطعام حاراً، أو يأكل المرء في السوق، أو أن يؤكل أو يشرب بالشمال، مع وجوب أكل المرء بيمينه ومما يليه، كما حثّ - عليه الصلاة والسلام - على القناعة في المأكل والمشرب، وكان سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام أول من أعد الوليمة وأكرم الضيف. البوفية المفتوح يتيح للمعازيم فرصة اختيار الأكل المناسب ومقداره كان من مواجيب العرب أن يخدم المضيف وأبناءه ضيوفهم ويقُوموا على راحتهم وتلّمس حاجتهم مع طلاقة ترحيبهم وإظهار الفرح والسعادة بمقدمِهم والبشاشة في وجوههم، حتى قال الشاعر: بشاشة وجه المرء خير من القرى فكيف بمن يأتي به وهو ضاحك كما أن من كرم الضيافة العربية أن تُحدّث الضيف بما يُحب وبما تميل نفسه إليه وعليه كان من آداب الضيافة عندهم أن لا يشكو المُضيّف من صروف الزمان بحضرة ضيوفه، بل لا يحدثهم بما يروعهم، ولا يغضب على أحد بحضورهم، ولا يُنغّص عيشهم بما يكرهونه، بل يُراعي خواطرهم، ويستجلب الفرح والسرور لهم. ورُوي عن أحدهم أنه استقبل ضيوفاً وفّروا عليه فأدخلهم بستانه، وكان له ابناً جميلاً ظلّ في خدمة ضيوف والده، ولمّا حلّ الظلام صعد الإبن إلى سطح المنزل لجلب بعض الحاجات، فسقط فمات من ساعته، فحلفَ والده على أمه ألاّ تصرُخ أو تبكي إلى أن يحين الصباح، فلما كان الليل سأل أضيافه عن ولده، فقال هو نائم، فلما أصبحوا وأرادوا الخروج، قال لهم: إن رأيتهم أن تصلوا على ولدي فإنه بالأمس سقط من على السطح فمات لساعته، فقالوا له: "لم لا أخبرتنا حين سألناك؟" فأجاب: "ما كان لعاقل أن ينغص على أضيافه أو يكدر عليهم عيشهم". «زرياب» أول من سن «برتوكولات» المائدة (حساء، طبق رئيس، حلى) وتصميم أزياء الحاشية والطهاة "الجود من الموجود" كما أن من مواجيب الضيافة عند العرب أن لا يحتجب عنهم أو يتأخر في إعداد طعامهم، وعليه أن يقدم أفضل ما عنده، ولا يكلف نفسه فوق طاقته فإن العرب تقول: "الجود من الموجود"، وكان الصحابة - رضوان الله عليهم - يقدمون الكسرة اليابسة، وحشف التمر، ويقولون ما تدري أيهما أعظم وزراً، الذي يحتقر ما قدم إليه، أو الذي يحتقر ما عنده أن يقدمه، وقيل أن الإمام الشافعي نزل حين وصوله إلى بغداد بالزعفراني، وكان "الزعفراني" يكتب كل يوم رقعة يدوّن فيها أنواع الطعام والشراب ويقدمها لجارتيه لكي تحضرها، وذات مرة أخذ الشافعي الورقة من الجارية وزاد صنفاً من الطعام، فلما علم الزعفراني أعتق الجارية فرحاً وسروراً بذلك. كما أن من مواجيب العرب عند الضيافة تشييع الضيف إلى باب الدار، وحفظ متاعهم وحاجاتهم، ومؤانستهم والتبسط لهم، ولذا قيل أن "هارون الرشيد" استضاف ذات مرة "القاضي أبو يوسف"، وأراد "الرشيد" أن يكرمه، فطلب من الطباخين أن يحضروا "الفالوزج" و"اللوزينج"، وهما نوعان من ألذ وأطيب الحلوى في ذلك الزمان، وقد تغنّى بهما الشعراء، ثم قال له "الرشيد" "يا أبا يوسف إنني اختلفت مع زوجتي زبيدة أيهما أفضل (الفالوزج) أو (اللوزينج) وأريد أن تحكم بيننا"، فقال "أبو يوسف": "لا أقضي على غائب يا أمير المؤمنين"، فأمر "الرشيد" أن يعجلوا في احضارها، فلما وُضعت بين يدي القاضي أخذ من هذه لقمة ومن تلك لقمة ثم سكت، وأعاد الكرّة إلى أن اكتفى فقال ثم التفت إلى "الرشيد" وقال: "يا أمير المؤمنين كلما أردت أن أقضي لأحدهما أتى الآخر بحجته"، و"الرشيد ينظر إليه ويضحك"، فلما اكتفى وشبع قال له "الرشيد": "أحكم بينهما الآن يا أبا يوسف"، فقال: "إن الخصمان قد اصطلحا يا أمير المؤمنين وليس لي عليهما الآن سلطة"، فضحك الجميع وتعجّب الناس من حيلة "الرشيد" في إكرام ضيفه. "برتوكولات" و"ايتكيت" ظلت آداب المائدة العربية كما هي حتى مع مرور الزمان واختلاف الأرض والمكان، إلاّ أن الترف الحضاري والاختلاط بالأقوام والأعراق الأخرى ألبس مثل هذه الآداب والمواجيب لباس "البروتوكولات" الحديثة، ففي الأندلس ظهر المصدر ورجل البلاط "زرياب" الذي وفدَ من حضارة "بغداد" في القرن الثالث إلى الأندلس فسما نجمه وذاع صيته، وأصبح رجل البلاط الأول في قرطبة، لا سيما بعد أن سَنّ للأمراء هناك أنظمةً وطقوساً في آداب الأكل وتقديم الموائد، بل لقد تجاوز ذلك كُلّه، حيث سعى إلى تصميم أزياء الأمراء والوزراء ورجال الحاشية وجعل لكل طبقة من طبقات المجتمع لباساً خاصاً بها، بل إنه رتّب (200 دينار) إلى امتيازاته العديدة وجلب معه من بغداد - التي كان سابق الذكر فيها - جملةً من آداب السلوك المهذّبة في فن الطبخ وتقديم الطعام، ومن ذلك كان يقول: "ينبغي أن تبدأ الوجبات بالحساء، يتبعها الطبق الرئيس من السمك أو اللحم أو الطيور، وتختتم بالفواكه والمكسرات"، ولذا كان ل"زرياب" أسبقية أوروبية في سن "برتوكولات" المائدة وتأطير وتحديد نُظم المائدة السلطانية، حتى أنه نشر فكرة الطاولة المغطاة، كما استبدل الأقداح المعدنية الثقيلة بأقداح البلّور، وجدد وضيفه أدوات الطعام، بل والطهاة والمشرفين على المائدة القائمين على خدمة الضيوف، وهو ما تطور حالياً إلى علم قائم بفئة مستقل بتعاليمه وآدابه تحت مسميات عديدة ك"بروتوكولات" الموائد ومراسم الطعام أو "الإتيكيت" الذي يعني السلوك الراقي والذوق المتحضر في حسن فن التعامل مع الأطروحات والتي سنها وعمل بها الامبراطور الفرنسي "لويس الرابع عشر" قبل ما يقارب من (300) عام. وقال "د.سليم الحسني": المسلمون إبان تحضرهم كانوا يأكلون وفق المتغيرات الفصلية، فالوجبات الشتوية النموذجية كانت غنية بالخضروات كالملفوف أو الكرنب واللِفت والجزر والكرفس والبازلاء، وكانت هذه الخضروات تؤكل مع أطباق من اللحم، أما الحلوى - أي ما يقدم بعد الطعام - فكانت في العادة من الفواكه المجففة كالتين والزبيب والخوخ، تصحبها أشربة البنفسج والياسمين، وفي المقابل كان غداؤهم الصيفي من (11) صنفاً من الفاصوليا واللوبياء والخس والهندباء، وكان لحم الطيور والنعام والبقر هو المرافق لهذه الخضروات، أما الحلوى بعد الطعام فكانت تشمل الفواكه كالليمون والسفرجل والتوت والكرز والبرقوق والعنب، في حين تصنع أنواع الأشربة من عجينة الفواكه المحفوظة من الليمون والورد والياسمين والزنجبيل، وكانت هذه الولائم تُقدم على الطاولة المغطاة التي ابتكر فكرتها "زرياب" وكانت ملكة البلاد الاسكندنافية "اكريستينا" تحرص على اتباع نظام غذائي إسلامي فتستورد منتجات الشرق وفواكهه. «المفطح» أساس العزائم الرسمية مهما كلّف الأمر الأواني والبلور وكما تفنن العرب والمسلمون الأوائل في تنويع الطعام والشراب، فقد تفنّنوا أيضاً في صناعة الأواني والأقداح والأباريق التي لا تخلو منها المائدة، حيث طوّر "عباس بن فرناس" - صاحب أول تجربة طيران - صناعة البلور، كما استخدم الزجاج في الأباريق والأكواب ورسم عليها الأشكال والقباب وجعل لها سطوعاً وبريقاً يشّع منه وميضاً بين رسومات السحب، كما أبدعوا في صناعة الأواني الفخارية الخاصة بالمائدة لاسيما أهالي "مالقا" في الأندلس الذين أرسوا أسس صناعة الأدوات الخزفية المعروفة باسم "المايوليقا" التي هيمنت على صناعة الخزف الايطالي. ولعل كتاب الطبخ الأندلسي الذي عثر عليه الباحثون وترجمة "تشارلز بيري" عن مؤلفه المجهول يعتبر إحدى الكتب الفريدة التي وضعت وصنفت للتعريف بالمائدة الأندلسية، كما أن ثمة قصائد وأشعار لجملة من الشعراء العباسين يصف الواحد منهم كيف يتم إعداد أكلات ك"السبونبك" و"اللوزينج" و"الزلابية" و"الكنافة" و"القطائف" بالشرح الدقيق والمُفصّل، وسبق عرض بعض القصائد في موضوع سابق، لاسيما وصف "إبن الرومي" لبعض هذه الأكلات، ومقامات "بديع الزمان الهمذاني" في وصف بعضها وطرق تقديمها، وهذا بالطبع بعيد عن مائدة "الحجاج بن يوسف" الذي أكل الناس من مائدته فلما قُدمت الحلوى ترك "الحجاج" الناس يأكلون منها لقمة ثم قال: "من أكل من هذه الحلوى قطعت عنقه فأمسك الجميع عنها إلاّ أعرابياً نظر إلى الحجاج ثم استمر في أكله وهو يقول للحجاج أوصيك بأولادي خيراً حتى استغرق الحجاج في الضحك". خمسة أصناف وكان طعام الأجداد - لا سيما في وسط وشمال الجزيرة العربية - لا تتجاوز خمسة أصناف هي القمح والبر واللبن واللحم والتمر، وقس على ذلك موائدهم التي لا تخرج عن مشتقات هذه الأصناف عدا ما تنبته الأرض من خيراتها، فالجريش والمرقوق والقرصان والحنيني والقشد والمطازيز والقفر "القديد"، كلها من هذه الأصناف الخمسة، وقد تجدها تتكرر في جنوب الجزيرة العربية بمسميات أخرى يستثنى منها لحم الإبل الذي يستبدل في بعض المناطق بلحم الشاة بأنواعها، ويزيد عليها العسل الذي تشتهر به المناطق الجنوبية، لتتكرر الأكلات ذاتها بمسميات مختلفة كالعبيلة والعريكة والعصيد والسمن بالعسل، وهي أيضاً غير بعيدة بأصنافها الخمسة عن تلك المائدة "الحساوية" التي تستبدل لحم الإبل بالسمك مع بقاء فرصة التواجد للحوم التي يُعد منها الهريس والمكبوس. وكانت هذه الأصناف تدور في موائد أجدادنا كما هي، وبمسميات وطرق مختلفة في الطهي والإعداد، ما عدا المائدة الحجازية التي كانت تتنوع بتنوع الوافدين إلى الديار المقدسة ممن حملوا معهم الطرق المتبعة لإعداد الأطعمة؛ فظهر الفول والعدس والمعصوب والرز البرياني والبخاري. وكان إعداد الولائم عند الأجداد يتطلب تعاون الجيران، فلا غضاضة في أن يطلب المضيّف من جاره بعض القدور أو الصحون هذا إذا لم يبادر جاره بإرسالها، بل سوف تجد الجيران يرحبون بالضيف ويستقبلونه، وربما يقدم أحد أبنائهم فناجين الدلة على الضيوف والآخر يصب لهم الماء، كما ستجد النساء يتعاون على إعداد وطهي الطعام، ومع قلة ذات اليد وندرة الزاد كانت الفرحة تعم الصغير والكبير كما كانت البركة تعم أرجاء الحي. "طابخ روحه" في هذا الزمان، ظلت المائدة العربية محفوفة بآدابها الإسلامية، وتنوعها بأصناف الأطعمة والأشربة التي ساهمت جسور التواصل الثقافي والجغرافي وحتى التقني في عالميتها وتعدد أسمائها ومسمياتها، مثل "البوفيه المفتوح"، بل لقد انفردت الموائد والأطعمة بالقنوات التلفزيونية المتخصصة، وأصبح الطبخ علماً وتخصصاً ثرياً ومستقلاً بذاته، ناهيك عن كتب وبرامج الطهي في المكتبات وعلى صفحات "الفيس بوك" و"اليوتيوب"؛ مما ساهم في انحسار فرص الإبداع في تطوير بعض الأكلات، لا سيما في ظل الانتشار المهول للمطاعم ومحال الوجبات السريعة التي اختصرت زمن إعداد الطعام؛ على الرغم من نصيحة الأطباء بعدم الإفراط في تناولها، فضلاً عن الوجبات المعلبة، والمعلبات الغذائية التي عرفها الناس منذ قرن من الزمان والتي اطلق عليها كبار السن حين دخولها إلى بلادنا في أربعينيات القرن الهجري المنصرم "طابخ روحه" لا سيما حين شاهدوا الأسماك ولحوم الضأن مطبوخة ومعلبة وجاهزة للتقديم والأكل، وعلى الرغم أيضاً من كون الطبخ أصبح مادة رئيسة في جدول طالبات المدارس، فهو الآن ب"طقوسه" و"إتيكيته" محل حفاوة بنات هذا الزمن اللائي يتسابقن على تصوير صواني الحلى و"سراويس" المقبلات وأقماع "الآيسكريم" وال"دريم ويب" الموشحة بالورود والأزهار المجففة التي تحرص الفتيات على إبقاء صورها كخلفيات لهواتفهن المحمولة. عزايم «استراحات» أو «جلسة محلي»..! مثل ما كانت موائد السلطان عامرة بما لذّ وطاب، ومرحّبة بكل ضيوفه بأجود الأطعمة والمشارب وأفضل الأواني، كانت الغاية من تلك الولائم إكرام الضيف من أجل إكرامه والحفاوة به، بينما اليوم أصبحت كثير من المنازل -غالباً- لا يدخلها إلاّ أهلها فقط، وإن استدعى الزمن أن يولموا -مجبر أخاك لا بطل- فإن الوجهة تكون للاستراحات بالإيجار، دون اهتمام بالمائدة سوى دفع قيمة إضافية يتولى على إثرها صاحب الاستراحة إحضار عشاء "بوفيه مفتوح" يمرق أمامه "المعازيم"، وآخرون يتمكنون من النفاذ بجلودهم قبل العشاء، حيث صارت "العزيمة" -غالباً- همّاً لدى كثيرين، إما في إقامتها بنيّة "إزالة شرهة"، والأمرّ من ذلك ضيوف يحضرون بنيّة "سلّم واطلع" عشان "لا يزعلون عليه". وفئة أخرى أصبحت موائدها لضيوفها لا تتعدى موعد في إحدى جلسات المطعم كما يقال "جلسة محلي"، حيث يتحلّقون "المدعوّن" مباشرة على موائد "المظبي" و"المندي" في جلسة لا يتجاوز اتساعها مترين في مثلها، وما إن اقتربوا من نهاية تناولهم للطعام، إلاّ وطبق "الكنافة" قد سقط عليهم بواسطة عامل المطعم، يستحثّهم بتلك الطريقة على الإسراع في الأكل من أجل أن يضمن زبائن آخرين يخلفونهم في الجلسة نفسها، ولا تكاد تتجاوز تلك العزيمة في المطعم ساعة من الزمن ربما ارتشفوا بعدها "بيالة شاي" على مضض عند بوابة المحل، وفي اليد اليسرى "عود أسنان" ينخش بواسطته بقايا أطعمة كان من الأجدى تناولها على مائدة منزلية تعبّر أكثر عن السعادة بإكرام الضيف والاحتفاء به. وهذا الأمر لا ينطبق على فئة أصبح همّها "التباهي" و"الفشخرة" بإقامة ولائم وموائد أكثر بكثير من طاقة "المعازيم"، دون الاحتفاء بهم بأطعمة فاخرة ومتعددة، ولكنها في الوقت نفسه بمقدار عددهم دون إسراف وتفريط لا يمكن أن يضفي قدراً أكبر للداعي، بل إنه تعجيز لغيره ممن لا يتحمّل دفع قيمة فاتورة قد تتجاوز دخله الشهري في هذا الزمن..!.