هذه رؤية... ومحاولة لتجميع شتات الأفكار بعد مرور عشرين عاماً على سقوط جدار برلين وتدافع الألمان الشرقيين على برلينالغربية وهم يحلمون بالعيش الرغيد، بصورة غير واقعية، أدت إلى خيبة أمل بعضهم، وإن يكن البعض الآخر كالمستشارة أنغيلا ميركل القادمة من الشرق الألماني والتي أصبحت رئيسة لألمانيا الموحدة ما زالت تعتقد أن يوم سقوط الجدار هو «أجمل يوم في حياتها وفي التاريخ الحديث لألمانيا»! إن السرعة التي استعادت بها ألمانيا وحدتها مدهشة فاقت كل التوقعات، فقد توقع كاتب هذه السطور قبل سقوط الجدار بأكثر من سنة، ضمن توقعات أخرى بالمتغيرات المقبلة (أيار / مايو 1988) في كتابه الصادر عن «دار الآداب» ببيروت في ذلك التاريخ بعنوان «العالم والعرب سنة ألفين» أن تتم الوحدة الألمانية بين الشطرين، ولكن ليس بالسرعة التي تمت بها: «وسيبقى في صلب التفاعل بين أوروبا الشرقية وأوروبا الغربية محور انبعاث الوحدة الألمانية. إن مسألة توحيد ألمانيا ستكون من أدق القضايا، وأكثرها حرارة وإثارة في العقدين الآخيرين من هذا القرن (العشرين)، والعقود التالية من القرن الحادي والعشرين» – الكتاب المذكور، ص 137. ولكن المستشارة الألمانية نبّهت في خطابها الاحتفالي يوم 9 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري إلى أن الوحدة الألمانية لم تكتمل بعد، على رغم قيامها، ولا بد من أن يعم خيرها الجميع. وأياً كان الأمر، فلقد تغيرت الأيديولوجيا أي «العقيدة» السياسية في ألمانيا (الشرقية) ثم في روسيا ذاتها وفي غيرها من بلدان أوروبا الشرقية من شيوعية إلى ديموقراطية ليبرالية ذات توجّه رأسمالي، ولكن بقيت «الحقيقة القومية» لكل قوميات شرق أوروبا التي أصبحت اليوم جزءاً من أوروبا الموحدة. تغيرت «العقيدة» وبقيت «القومية» ثابتة لم تتغير! والفكرة الأولى التي تهمنا بعد إقرار هذه الحقيقة أن الأيديولوجيا الشيوعية قد أخفقت ولم يعد ممكناً إقامة دولة العدل الاجتماعي للعمال والفلاحين في ظل الديكتاتورية والفتك بهم تحت شعاراتها. وقد بدأ الانهيار منذ تجرأ خروتشوف على نقد «الرفيق» ستالين. (وكان أوهى تبرير ما قيل إن «النظرية صحيحة لكن الخطأ في التطبيق!»، إذ ماذا لو عكسنا الآية وطبقنا هذا الكلام على الرأسمالية؟. غير أن مطلب العدل الاجتماعي سيظل حياً في ضمير الشعوب لا يمكن التراجع عنه. وعلى نظم الحكم رأسمالية كانت أو غير ذلك ألا تهمله إن أرادت البقاء! ولكن مطلب العدل الاجتماعي سيبقى مطلباً نسبياً. فعلى الشعوب تحسين أوضاعها تدريجاً لا المطالبة بالعدل المطلق... المستحيل! وعبدالوهاب البياتي، بعد تجربة العمر في العمل الشيوعي، يقول في النهاية: «عدالة المسيح في التاريخ لن تقوم!»... ويقصد أن يوتوبيا العدل المثالي المطلق لا يمكن أن تقوم في عالمنا هذا المركّب من نواقص عدة... للأسف! ... فالسمك الكبير يأكل السمك الصغير، والحيوانات المفترسة تفتك بالحيوانات الأليفة المسالمة... وهكذا! ولحسن الحظ، فإن الإرادة الإنسانية بمقدورها أن تتدخل لتحسين الوضع نسبياً، بخلاف «الحتمية» في عالم الطبيعة. ولكن علينا التنبه إلى أن الممكن هو التحسين النسبي لا المطلق. ولذلك قيل: «أن تشعل شمعة خير من أن تلعن الظلام ألف سنة». لأن الظلام، على رغم اللعن، سيبقى على حاله، كما هو حال العرب في المسألة الفلسطينية وقضاياهم المصيرية الأخرى، وقد تابعنا خطابات السيدات والسادة من قادة الدول الغربية يوم الاحتفال في ساحة جدار برلين، لعلهم يتذكرون «الجدار الآخر» في فلسطين... فلم نسمع شيئاً! والطريف أن الكثيرين في العالم لجأوا في وقت اشتداد الأزمة المالية العالمية، إلى تقليب المراجع الماركسية، باعتبار أن الرأسمالية قد «انهارت». حقاً للرأسمالية دوراتها صعوداً وهبوطاً. ولها – عندما تكون متوحشة وقاسية وعارية – سيئاتها الكثيرة. ولكن من «مكر» التاريخ، و «مكر» الرأسمالية أنها استفادت من تحليلات خصيمتها... الماركسية! فعندما يعرف المرض فإن الطريق إلى علاجه يصبح ممكناً. وأهم توقعات الماركسية: أن الجشع الرأسمالي سيؤدي إلى «كفر» البروليتاريا بالنظام القائم، ومن «الحتمي» أن تهب للإطاحة به إنقاذاً لنفسها. هنا أدركت الرأسمالية المتوحشة الخطر الذي يتهددها فسارعت إلى أخذ «لقاحات اشتراكية» وتحولت إلى رأسمالية «ذكية» ذات مسؤولية اجتماعية، ووجه إنساني... وذلك ما يحاوله الآن الرئيس الأميركي باراك أوباما بدفعه قانون الضمان الصحي في الكونغرس في ظل رأسمالية هي «الأعتى والأقسى» بين الرأسماليات العالمية. إن أوباما ليس «اشتراكياً» لكنه «رأسمالي ذكي» والرأسماليون الأغبياء هم الذين يقاومون مشروعه الصحي. وبعد موافقة مجلس النواب، لم يبق غير مجلس الشيوخ ليصوت عليه سلباً أو إيجاباً. لقد تطعمت معظم الرأسماليات الأوروبية بلقاحات «اشتراكية» كالتأمينات الاجتماعية وغيرها. وعندما تولى حزب العمال، وهو حزب البروليتاريا العاملة، الحكم في بريطانيا لم يلغ الرأسمالية، بل أدخل عليها «التحسينات» اللازمة. وكذا فعل «أبو الاشتراكيين» الفرنسيين، فرانسوا ميتران عندما وصل إلى الحكم مع حزبه مثلما فعلت الاشتراكيات الاسكندنافية. وفي اليابان يقوم مدراء المصانع بدور «الخطّابة» لعمالهم غير المتزوجين لا لسواد عيون العمال، وإنما لصالح الرأسمالية اليابانية. لذلك فلا داعي لإعادة اختراع العجلة. إن «اقتصاد السوق» هو كلمة السر في نجاح أي نظام اقتصادي. واقتصاد السوق بصريح العبارة هو «الرأسمالية». وللألمان تعبيرهم المفضل والحكيم إذ يسمونه «اقتصاد السوق الاجتماعي» في إشارة إلى الرأسمالية ذات المسؤولية الاجتماعية. وفي الأدبيات الصينية الجديدة، فإن الحديث عن «القطة القادرة على اصطياد الفئران بغض النظر عن لونها» يشي بأنها «قطة رأسمالية» تربت بشحمها ولحمها في اقتصاد السوق! وقد لاحظ العارفون أن الصين، خلال اشتداد الأزمة المالية العالمية، هي التي أنقذت الاقتصاد الأميركي من الإفلاس والانهيار التام ... وما تزال. ونعتقد أن عنوان زيارة أوباما الصين يتلخص في عبارة: «شكراً لكم!»، وذلك في تباين جلي مع الموقف الغربي عامة من روسيا بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي. فهو موقف لا يمكن وصفه بالكريم. ولهذا السبب وقعت حرب جورجيا، وما تلاها من مواقف روسية متصلبة. إلا أنه يسجل للرئيس أوباما محاولته التقارب مع روسيا ونجاحه في ذلك في أوروبا. و «جائزة نوبل للسلام» هي جائزة أوروبية في الأساس وقد منحت له لأنه عمل بنجاح على تخفيف السباق النووي المستأنف بين العملاقين، فوق رأس الأوروبيين، وذلك «بيت القصيد» في منحه هذه الجائزة الأوروبية، بغض النظر عن نجاحه في الشرق الأوسط أو أفغانستان. أما الفكرة الثانية، التي سبق أن طرحها كاتب هذه السطور، فهي أن الأيديولوجيا الشيوعية للمفارقة أسهمت في إبقاء سيطرة روسيا على توابعها في وسط آسيا. ومن المفيد دراستها ضمن أدبيات «الاستعمار الحديث» بالإضافة إلى باب «الأيديولوجيات الثورية». فقد نجح القياصرة الروس في مد نفوذ بلادهم إلى بلدان آسيا الوسطى. وفي ضوء قيام الثورة الشيوعية في روسيا كان صعباً، إن لم يكن مستحيلاً، تنازل روسيا عن «مستعمراتها» المتصلة بها برياً من دون ظهور للعيان، بخلاف بريطانيا وفرنسا اللتين سيطرتا على «مستعمرات» فيما وراء البحار، وذلك خصوصاً في زمن سيادة «الاستعمار الأوروبي» على العالم، ولو تركت روسيا مستعمراتها الآسيوية المسلمة لتسللت إليها القوى الدولية الأخرى. لذا فباسم «الإخاء الأممي» جاءت «الأيديولوجيا الشيوعية» لتبرير سيطرة روسيا إنسانياً وأخلاقياً على تلك «المستعمرات» الآسيوية المسلمة. (هكذا أصبحت روسيا اليوم أكثر «تأورباً»، فهي من الغرب وليست منه! فقد ظلت نخبها الحاكمة منذ بطرس الأكبر تتطلع الى تحديثها حسب الحداثة الأوروبية). غير أن الوضع انقلب أواخر القرن العشرين، فالمسلمون أصبحوا «ثلث» سكان الاتحاد السوفياتي تقريباً. وكان المسلمون من الجمهوريات ذات الأكثرية المسلمة سيصبحون أكثر من نصف أفراد هذا الجيش، هذا إضافة الى العبء الاقتصادي العسكري الذي كانت تتحمله روسيا للإبقاء على تلك البلدان الفقيرة. وليس صدفة أن موسكو تخلّت في لحظة تاريخية واحدة عن الأيديولوجيا الشيوعية وعن «المستعمرات» الآسيوية! وبالنسبة الى الفكرة الثالثة والأخيرة، فالملاحظ أن بعض الأقلام «تحتفل» وتهلل لسقوط الشيوعية إرضاءً لأنظمة حكم معينة. إن هذا الموقف غير موضوعي وغير علمي. فإذا كانت الأيديولوجيا الشيوعية المبشرة بقيام ديكتاتورية البروليتاريا قد سقطت... نقول إذا كانت ديكتاتورية الحكم الشيوعي قد سقطت، فإن علم الاجتماع الماركسي ما زال يحتل مكانه المتواضع إلى جانب مدارس علم الاجتماع الأخرى، بما فيها مدرسة علم الاجتماع الخلدوني للفقيه العربي المسلم، عالم الحديث النبوي الشريف، وقاضي قضاة مصر عبدالرحمن بن خلدون. وقد بقيت الطروحات الماركسية كمحاولات في العلم – تفيد المطلعين عليها، من دون أن يأخذوا بها بالضرورة، وأصبحت من باب: «من تعلم لغة قومٍ أمن شرهم» – كما في القول المأثور. أخيراً فإذا كان سقوط «الجدار» إيذاناً بنهاية الأيديولوجيا الماركسية، فإنه ليس نهاية العالم، ولا «نهاية التاريخ» كما زعم فوكوياما، بل سيظل مطلب العدل الاجتماعي حياً في الضمائر، تتحرق إليه النفوس: (سنة الله التي قد خلت من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلا). * كاتب من البحرين www.dr-mohamed-alansari.com