تسعى الدول الديموقراطية في تنويع أجهزة الاستخبارات وتدفع بعض الأجهزة لتراقب الأخرى حين يطرأ ما يهدد الأمن القومي، على خلاف الحال في تركيا اليوم. فهي صارت أقرب إلى نظام «البعث»: الاستخبارات تحكم قبضتها على أجهزة الدولة كلها ويسيطر شخص واحد على جهاز الاستخبارات. وفي أميركا، اضطر الجنرال ديفيد بترايوس، وهو يعتبر بطل الحرب في أفغانستانوالعراق وعين رئيساً لجهاز الاستخبارات الأميركية («سي. آي. إي.»)، الى الاستقالة بعد فضيحة كشف عنها جهاز الاستخبارات الداخلية، «أف بي آي»- وهذا فتش منزل بترايوس وأحاله على العدالة. والسابقة هذه هي مرآة الديموقراطية الحقة. وعلى رغم أن رئيس الاستخبارات التركية، هاكان فيدان، أبرزَ في أطروحة الدكتوراه التي ناقشها أخيراً، ضرورة مراقبة جهاز الاستخبارات والحاجة إلى تقييد أنشطته والحفاظ على استقلاليته، لا يخفى انه اسبغ حصانة على الاستخبارات التركية، وجعلها في منأى من المساءلة والمحاسبة ناهيك عن إلحاقها بالسلطة السياسية. ففي السنوات الثلاث الماضية، بادر من دون أن يثير جلبة، الى ضم أجهزة الاستخبارات العسكرية تحت جناحه في الاستخبارات العامة للاستفادة من كل إمكاناتها التكنولوجية والاستخباراتية. والخطوة هذه اندرجت في سياق الإجهاز على سلطة الجيش. وقامت الحكومة كذلك بتصفية جهاز الاستخبارات التابع للأمن العام. وخلال حملات تعديل التعيينات الكبيرة الأخيرة وقبلها، أُنتزع أهل الخبرة الذين قضوا عشرات السنين في استخبارات الأمن العام واكتسبوا الخبرة، من مناصبهم، ونقلوا إلى وظائف إدارية او حملوا على الاستقالة. بعد ذلك أُلحقت تلك الاستخبارات بجناح الاستخبارات العامة. وأفسحت الحكومة بواسطة تعديل قانوني بسيط، المجال أمام الاستخبارات العامة للدخول - ومن دون إذن محكمة - إلى كل أجهزة الدولة ووزاراتها، من الصحة الى التعليم والبنوك وصولاً الى دائرة العقارات والضرائب. وفي وسع الاستخبارات اليوم ان تعرف أدق تفاصيل حياة المواطنين الشخصية من غير داعٍ أو إذن. فتعرف رصيد الصحافي المصرفي ومكان إيداعه وتقاريره الصحافية وإلى أين يسافر أو أين يدرس أبناؤه. وإثر التعديل القانوني وحيازتها هذه الصلاحيات، باشرت الاستخبارات العمل لتصنيف الموظفين والأتراك عموماً، في أبشع جريمة يمكن ان ترتكبها حكومة، وهي تصنيف المواطنين تبعاً لتوجهاتهم السياسية او انتماءاتهم الطائفية أو العرقية. وهي جريمة اقترفها الجيش في الماضي لرصد الإسلاميين وطردهم، وهو عوقب على تجاوزاته. اما اليوم فالحكومة تقترف هذه الجريمة بواسطة الاستخبارات وهي تستهدف كل المؤسسات وليس المؤسسة العسكرية فحسب. لم تكتفِ بذلك، بل ربطت رئاسة أجهزة التنصت الداخلية والخارجية التابعة للقضاء والتحقيقات الجنائية بالاستخبارات العامة. فأصبحت الاستخبارات على علم بمن يلاحق قضائياً أو من يخضع للتنصت تمهيداً لرفع دعوى فساد عليه أو الادعاء عليه بارتكاب جريمة قبل أن يصل الملف إلى المحكمة. كل هذه الصلاحيات الواسعة هي اليوم بيد رجل واحد هو هاكان فيدان. وتضخّم نفوذ الاستخبارات التركية يذكّر بأنظمة «البعث» أيام صدام حسين وحافظ الأسد. على نحو ما تنزلق كل مؤسسة تعتبر نفسها فوق القانون أو الرقابة إلى التعسف والخطأ، بدأت الاستخبارات في ارتكاب أخطاء فادحة. فالتقرير الأخير حول مقتل 34 كردياً على الحدود مع شمال العراق قبل 3 سنوات من طريق الخطأ، أظهر ان المسؤول عن الخطأ هذا هو الاستخبارات العامة. فهي أعطت الجيش معلومة خاطئة زعمت ان هؤلاء المهربين هم مسلحون من حزب العمال الكردستاني. وانفرد جهاز الاستخبارات التركية في المشاركة في عملية الحل السلمي للقضية الكردية عبر مفاوضة عبدالله اوجلان. فوقع في أخطاء كثيرة، ومنها ما كشف عن مسؤوليته عن مقتل ثلاث قياديات كرديات في باريس من أجل تعبيد الطريق أمام الحل، عبر القضاء على معارضيه. وحين سحب اردوغان ملف الأزمة السورية من الخارجية التركية سلمه الى جهاز الاستخبارات. فتسربت الأسلحة والمساعدات إلى «القاعدة» والمجموعات المتحدرة منها، وصارت تركيا أبرز داعمي هذه المنظمات الإرهابية. حتى أن الاستخبارات ضغطت على الجيش للتجسس بطائراته على سورية، فأُسقِطت طائرة تركية وفقدنا طيارين. وحتى اليوم يُتستر على المسؤول عن هذا الخطأ. ويرجح المراقبون أن الاستخبارات هي المسؤولة. ويدرك الأتراك اليوم على وقع بعض التسريبات من جهاز الاستخبارات، أن الجهاز يعمل بأمر مباشر من أردوغان وهو مسخر لخدمة مصلحة «العدالة والتنمية» وليس مصلحة الدولة. وعلى سبيل المثل، يسلم الجهاز تقريراً إلى الحكومة ينبهها إلى فساد بعض وزراء أردوغان ويحذر من كشف المعارضة القضية، عوض أن يحيل الملف على القضاء. وسربت وثيقة تثبت أن الاستخبارات تراقب كل الجماعات الإسلامية وتتعقب جماعة فتح الله غولان التي تهدد الحكومة وليس الدولة. وصارت الاستخبارات النافذة فوق القانون وفوق رقابة كل المؤسسات التركية. وهي وكيلة مصالح حزب «العدالة والتنمية» وأردوغان شخصياً. وعليه، تستهدف الاستخبارات المعارضة وأصحاب الرأي المخالف أو المعارض. وتضخّم نفوذ هذا الجهاز وبلغ مبلغاً تصعب السيطرة عليه. لذا، يسرّب عاملون فيه بعض فضائح الجهاز إلى الإعلام ويبلغون عن شاحنات السلاح التي تهربها الحكومة إلى مجموعات في سورية. وكأن هؤلاء يرسلون إشارات استغاثة من داخل سفينة الاستخبارات قبل أن تغرق بأصحابها وبأهلها وأن تُغرق تركيا. * صحافي، عن «طرف» التركية، 22/1/2014، إعداد يوسف الشريف