باتت تركيا تضبط إيقاع سياساتها، داخلياً وخارجياً، على خطى ورؤى بل ومزاج رجل واحد، هو رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان. دخل الأتراك عام 2012 وهم يناقشون الوضع الصحي لأردوغان، بعد خضوعه لجراحة في إمعائه، أُحيطت تفاصيلها بهالة من السرية، لا تتفق مع ما يروّج له رئيس الوزراء عن شفافية حكمه وديموقراطيته. ويودّع الأتراك عامهم على وقع خصام أردوغان مع مسلسل تلفزيوني يصوّر جزءاً من حياة السلطان سليمان القانوني، على غير ما يراه رئيس الوزراء ويرضاه لأجداده من السلاطين العثمانيين، لدرجة أن معلّقين سياسيين اعتبروا أن القوة السياسية لأردوغان وهيمنته تجاوزتا أي خصم سياسي، حتى بات السلاطين العثمانيين وتاريخهم هو الندّ الوحيد الذي يمكن أن يرضي الغرور السياسي لأردوغان. وطغت خمسة محاور على النقاش السياسي في تركيا هذا العام، هي: تراجع الحريات في شكل عام والإعلام في شكل خاص، فضائح القضاء وتسييسه، المشاريع السياسية لأردوغان حول انتخابه رئيساً للجمهورية ومحاولته تطبيق نظام رئاسي في تركيا، لئلا يخسر أياً من صلاحياته بعد دخوله قصر مصطفى كمال أتاتورك وليتجنب أزمة توريث لزعامة حزب «العدالة والتنمية» الحاكم ورئاسة الوزراء من بعده، مراجعة السياسة الحماسية لتركيا حول الأزمة في سورية، والقضية الكردية التي تراوح مكانها، لكن من دون أن تفقد مكانتها سياسياً. «محاكم تفتيش»؟ بدأت تركيا عامها بارتقاء في مراتب تصفية القيادات العسكرية المناهضة لحكومة أردوغان أو الجماعات الدينية، فكانت سابقة اعتقال الرئيس السابق للأركان الجنرال المتقاعد إلكر باشبوغ، لاتهامه ب «تزعّم تنظيم إرهابي يخطط لقلب النظام». وأحدث ذلك صدمة لدى الأوساط الإعلامية والسياسية التركية، كما شكّل إضافة جديدة إلى فضائح القضاء التي اضطُرت أردوغان في النهاية إلى إصدار أمر بإغلاق المحاكم الجنائية الخاصة – بعد أن تحسم القضايا التي تنظر فيها - والتي تعتبرها المعارضة الأتاتوركية «محاكم تفتيش» أو محاكم أمن الدولة، إذ أُنشئت قبل خمس سنوات خصيصاً للنظر في ما يُسمى «قضايا خطط الانقلابات»، والتي تعتبر المعارضة أنها استُخدمت لتصفية خصوم سياسيين. قرار أردوغان صدر بعدما وصلت أظافر القضاء إلى رقبة مساعده، رئيس جهاز الاستخبارات التركية هاكان فيدان، لاتهامه بعقد مفاوضات سرية مع «حزب العمال الكردستاني»، تتعارض مع أمن تركيا. وإذ استطاع أردوغان أن يحمي مساعده، من خلال إصدار قانون خاص به، فإنه ترك المحاكم الخاصة تتوّج عملها بالفصل في قضية مخطط «المطرقة» الانقلابي، وإصدار أحكام بالسجن المؤبد على «قادة» ذاك المخطط من جنرالات متقاعدين، وبالسجن لفترات طويلة على عشرات من الضباط والعسكريين، على رغم ما شاب تلك القضية من مخالفات قانونية أشار إليها الاتحاد الأوروبي في تقرير، أبدى فيه قلقاً حول القضاء في تركيا. وتزامن ذلك مع زيادة ملحوظة في شكاوى من تعرّض موقوفين وسجناء لتعذيب وسوء معاملة، ومنع هيئات حقوقية مستقلة من زيارة السجون وتقويم أوضاعها. ومُنيت تركيا هذا العام بأضخم الضربات دولياً، حول حرية التعبير والإعلام، إذ اعتُبرت «أكبر سجّان» للصحافيين في العالم، متقدمة على الصين وإيران. وتواصل الحكومة ضغطها على وسائل إعلام محلية، وفرض تعيين رؤساء تحرير لصحف، وكان آخر ضحايا تلك السياسة صحيفة «طرف» اليسارية التي كانت الأكثر جرأة بين نظيراتها في انتقاد أردوغان وحكومته، إذ اضطُر رئيس تحريرها أحمد ألطان ومساعدتاه إلى الاستقالة هذا الشهر، بعدما زادت الصحيفة انتقادها الحكومة. ولم تثِرْ الاستقالة دهشة الوسط الإعلامي، بل جاءت ردود الفعل إما متشفية من وسائل الإعلام التابعة للحكومة، أو متوقِّعَة الخطوة، في استسلام واضح للأمر. صحوة «أتاتوركية» لكن سياسات أردوغان المتصلة بالحريات وتصفية خصومه «الأتاتوركيين» عبر القضاء، أثارت صحوة تُعتبر سابقة حتى بالنسبة الى اليساريين، إذ شهدت تركيا أضخم مسيرات منذ سنوات، أحيت عيد الجمهورية وذكرى وفاة مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس تركيا الحديثة. وشهدت مسيرات عيد الجمهورية، صدامات مع أجهزة الأمن التي حاولت منعها من الوصول إلى ضريح أتاتورك، تنفيذاً لتعليمات أردوغان. لكن المنظمين كسروا الحواجز ووصلوا إلى الضريح، في مشهد يُعتبر سابقة في تحدي أردوغان. واضطُر رئيس الوزراء إلى الإقرار بأن الوقت يمرّ سريعاً، وبتضاؤل فرصة تمرير قانون تعديل نظام الحكم، ليصبح رئاسياً. على رغم ذلك، قدّم حزب «العدالة والتنمية» رسمياً هذا الاقتراح إلى لجنة إعداد الدستور الجديد، لكن كل أحزاب المعارضة اتحدت ضد الاقتراح، إذ اعتبرت أنه سيحوّل أردوغان سلطاناً ذات صلاحيات ليست محدودة، بوصفه الأوفر حظاً في الفوز في انتخابات الرئاسة المقررة عام 2014. وأثار موضوع الرئاسة حفيظة الرئيس عبدالله غل الذي نُسب إليه انزعاجه من تكرار مساعدي أردوغان أن الأخير سيكون الرئيس المقبل، من دون أدنى اعتبار لحق غل في الترشح لولاية ثانية، وكأن الأمر محسوم. وجعل ذلك وسائل إعلام كثيرة تركّز على الفارق بين سلوك الرجلين وسياساتهما، معتبرة أن غل هو الأصلح للمنصب، إذ نشرت نتائج استطلاع أظهرت أن غالبية ناخبي الحزب الحاكم تؤيد بقاء غل رئيساً. لكن يُتوقع أن يصرّ أردوغان على مسألة النظام الرئاسي، من خلال إحالته ذلك على استفتاء عام، ما يعني أن عام 2013 أيضاً قد يحفل بأنباء عن الطموحات السياسية لأردوغان. الملف الكردي ودخلت تركيا عام 2012 على وقع ازمة مقتل 34 كردياً، إذ قصف سلاح الجوّ مهرّبين، معتقداً أنهم مسلحون من «الكردستاني». وعمّق الحادث الهوّة بين الحكومة والشارع الكردي، خصوصاً بعد رفضها الكشف عن الجنرال المسؤول عن هذا «الخطأ»، أو التطورات التي أفضت إليه. وازدادت الهوّة اتساعاً، بعدما طلب أردوغان رفع الحصانة عن عشرة نواب أكراد ومحاكمتهم، إثر لقائهم مسلحين من «الكردستاني» في تركيا، وإعلانهم مساندتهم لهم علناً. وطغى هذان الحادثان على إعلان الحكومة موافقتها على تدريس اللغة الكردية في المدارس، بوصفها مادة اختيارية، والسماح لمتهمين بالدفاع عن أنفسهم بلغتهم الأم الكردية أمام المحاكم. الأزمة السورية وسعت تركيا إلى إقامة ما سُمِّي «مجموعة أصدقاء الشعب السوري» التي عقدت 4 اجتماعات هذا العام، لكنها اضطُرت إلى مراجعة سياساتها، بعدما فقدت مقاتِلة بنار مضادات سورية قرب ساحل اللاذقية، وبعدما طاول قصف الجيش السوري داخل الحدود التركية، ما اسفر عن سقوط قتلى وجرحى. وعلى رغم مساعي أنقرة لتطوير «المجلس الوطني السوري» وتوحيد صفوف المعارضة السورية المسلحة، لكنها اضطُرت إلى تسليم واشنطن الملف، وساعدتها على تشكيل «الائتلاف الوطني السوري» وتأسيس قيادة عسكرية موحدة نبذت «جبهة النصرة» والمجموعات المتطرفة الأخرى التي اتُهِمت تركيا بمساندتها وإقحامها في الصراع السوري. كما أن ظهور مناطق كردية «محررة» شمال سورية، واتصالها ب «حزب العمال الكردستاني»، زادا قلق أنقرة ودفعاها أكثر إلى تسليم الولاياتالمتحدة والحلف الأطلسي الملف السوري، لينتهي العام بإعلان نشر بطاريات صواريخ من طراز «باتريوت» في تركيا، على الحدود مع سورية.