عندما بدأت الدولة تتخلى عن كثير من الخدمات والأعمال التي كانت تؤديها، وتسندها إلى القطاع الخاص، كالمناجم والتعدين والكهرباء والاتصالات والنقل والبريد، وأفسحت المجال للقطاع الخاص للاستثمار في الخدمات التي تؤديها مثل التعليم والصحة والسكن، تبع ذلك تحولات عميقة في قوانين العمل والعلاقات مع السلطة والعلاقة بين المجتمعات والشركات والعلاقة بين السلطة والشركات، وكانت التحولات في مجملها إضعافاً للمجتمعات وقدرتها على إيصال صوتها والتأثير في القرارات العامة المتعلقة بحياتها ومشاركتها السياسية والعامة، وتعرض مستوى المعيشة والدخل لتراجع كبير. فقد أضعفت (ربما عمداً) المؤسسات الحكومية الخدماتية وتوقف الكثير منها، وصار لزاماً على الطبقة الوسطى أن تلجأ إلى القطاع الخاص للحصول على الخدمات التعليمية والصحية، وتراجع مستوى جودة ونوعية كثير من الخدمات والسلع، وارتفعت تكاليف الحياة والسلع والخدمات الأساسية، وفي الوقت نفسه وجدت المجتمعات أنها معزولة بلا حول ولا قوة في مواجهتها مع التحالف النخبوي والفوقي للشركات والحكومات، وتضاءلت فرص الابتعاث والتدريب في العمل والتنافس العادل على الوظائف والأعمال والفرص والترقية، والحصول على مستوى كريم من العيش والاحتياجات والخدمات الأساسية ضمن الدخول المفترضة والمتوقعة لهذه الفئات من المجتمع. لذلك ثمة حاجة ملحة في الأردن إلى عمليات تمكين للمجتمعات تقوم بها السلطة التنفيذية مختارة متطوعة، أو أن تناضل المجتمعات لأجل استقلالها، وتخوض عمليات سياسية واجتماعية وتنظيمية في العمل والتشكل التفاوض والصراع والضغط لأجل «مجتمعات مستقلة». تقوم فكرة استقلال المجتمعات على النظر إلى المجتمعات باعتبارها قوة ثالثة وشريكة في الدول إلى جانب الحكومات (القطاع العام) والشركات (القطاع الخاص) لتحقيق توازن بين مراكز القوى والتأثير ورفع مستوى الخدمات الحكومية والشركاتية، ولتتمكن المجتمعات من تحقيق واجبات المواطنة في علاقتها مع السلطة التنفيذية، وحماية نفسها كمستهلك في علاقتها مع القطاع الخاص، ولتجنب الشراكة والتحالف بين السلطة التنفيذية والشركات في مواجهة المجتمعات. ويعني تمكين المجتمعات واستقلالها قدرتها على تنظيم نفسها وإدارة مواردها وحقوقها واحتياجاتها الأساسية والقدرة على التأثير والمشاركة في الحكم والسياسات والتشريعات على النحو الذي ويوسع خياراتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ويجعل مؤسسات الحكم والإدارة العامة أمينة وقادرة على التعامل مع التفويض الذي منحه المواطنون لها للتصرف بالموارد والضرائب العامة وفق مصالح المواطنين واتجاهاتهم، ويمكّن المجتمعات من تحقيق توازن مع السلطات والمؤسسات ومن محاسبة هذه المؤسسات ومراقبتها وتوجيهها، ويجعل مؤسسات القطاع الخاص التي تورد الخدمات الأساسية والاستهلاكية كالتعليم والكهرباء والاتصالات والصحة والتأمين والسلع الأساسية وغيرها تورد خدماتها إلى المستهلك (المجتمعات) في أفضل مستوى يتفق مع الثمن الذي تحصل عليه. وفي الوقت نفسه فإن التحولات والتغيرات العالمية، القائمة على أساس المعرفة والمعلوماتية والاتصالات، تعطي المجتمعات والطبقات الوسطى فرصاً جديدة، تجعلها قادرة على التحرك والمشاركة وحماية نفسها من استغلال السلطات التنفيذية والشركات واعتداءاتها على المجتمعات والأفراد. لدينا في الأردن اليوم تعددية حزبية وانتخابات نيابية ونقابية وبلدية وصحافة مستقلة، ولكننا نشعر جميعاً حكومة ومجتمعات بأنها ديموقراطية لم تنشئ الإصلاح المطلوب ولم تحسن الحياة. فالديموقراطية الأردنية ما زالت فوقية تتدافع حولها النخب السياسية، وليست عقداً اجتماعياً تقوم عليه مصالح والتزامات الحكومات والمجتمعات والمؤسسات، وهذا سيجعلها خاضعة لمصالح النخب السياسية، ويعطيها فرصة تصميمها وضبطها والسيطرة عليها وتوجيهها وربما إجهاضها وخنقها. إذاً ما الحالة التي نرغب فيها ونتطلع إليها؟ * كاتب أردني