كان إضراب المعلمين في الأردن في الأسابيع القليلة الماضية حدثاً كبيراً على المستوى المحلي، ومناسبة للنظر والمراجعة في منظومة السياسات والمواقف شغلت بها جميع المستويات الرسمية والشعبية والإعلامية، وكان أيضاً لافتاً في تحليله وفهمه، .. بدأ الإضراب وانتشر في أنحاء كثيرة ثم توقف وعاد المعلمون إلى مدارسهم من دون مرجعية او تنظيم سياسي أو نقابي أو أيديولوجي، كأن المعلمين هم بمهنتهم وهمومهم وتطلعاتهم فئة سياسية واجتماعية لها مطالبها ومشكلاتها وأزماتها، وتبين أنهم ليسوا في حاجة إلى تنظيم سياسي أو نقابي ليعبروا عن مطالبهم ويتحركوا ويعملوا ويقرروا الإضراب أو إنهاءه، ليس مهماً لأغراض هذه المقالة على الأقل ماذا حقق المعلمون وماذا خسروا، وأين أخطأت الحكومة وأصابت، ولكنها المرة الأولى (ربما) التي تفلت الحركات الشعبية والمجتمعية فيها من إسار الأحزاب والأيديولوجيات، أو على الأقل (وربما يكون هذا تعبيراً ظالماً) المرة الأولى التي لا تقدر، لا تريد فيها الحكومة، على زج الأحزاب السياسية والأيديولوحية في السلوك والحراك المجتمعي، ونتذكر في الأردن مجموعة من الأحداث السياسية والشعبية الكبيرة والتي تحولت أو حولت إلى صراع بين الحكومة ومجموعات سياسية وأيديولوجية، أحداث جامعة اليرموك عام 1986، والتي تحولت إلى مواجهة بين الحكومة والشيوعيين والإخوان المسلمين، وأحداث نيسان (ابريل) عام 1989 والتي أعقبتها استقالة حكومة زيد الرفاعي والد رئيس الحكومة الحالي سمير الرفاعي وإجراء انتخابات نيابية بعد توقف طويل وإطلاق الحياة السياسية والنيابية، وقد جرت في أثنائها اعتقالات واسعة في صفوف الحزب الشيوعي واليساريين، وأحداث الكرك عام 1996 والتي تحولت إلى مطاردة لحزب البعث الأردني (العراقي) وأحداث معان عام 1998، 2003 والتي تحولت إلى مواجهة ومطاردة للجماعات السلفية. ولكن أحداث إضراب المعلمين، وسبقتها من قبل اعتصامات عمال المياومة، والعاملين في ميناء العقبة بقيت حراكاً مجتمعياً مهنياً بلا أحزاب أو نقابات، كانت بعبارة أخرى مواجهة خالصة بين المجتمعات والسلطة التنفيذية وفي أحيان أخرى بين المجتمعات وتحالف الشركات والسلطات التنفيذية (كما في اعتصام العاملين في ميناء العقبة الذي اشترته شركة غير أردنية)، وهي بتقديري المحصلة الحقيقية اليوم للمواجهة والتنافس والصراع، ولم يكن ذلك مفاجأة بالطبع، فقد شهدنا في السنوات القليلة الماضية أحداثاً كبرى من المواجهات في أنحاء كثيرة من العالم بين المجتمعات والحكومات بلا دور فاعل للأحزاب السياسية والأيديولوجية على نحو يغير كثيراً في بنية الصراع والتنافس والحراك السياسي والاجتماعي يكاد يكون قائماً على المجتمعات والإنترنت! أتوقع أننا سنشهد تحولات كبيرة ومهمة في العمل السياسي والاجتماعي وفق مطالب الناس اليومية وشؤون حياتهم وعلى نحو مشابه لحركة المعلمين، لا يكون فيه دور لأحزاب وشخصيات ونخب سياسية، وهو يؤكد الاندماج في ظاهرة عالمية بدأت بالتشكل تقوم على المجتمعات والطبقات الوسطى، وتكاد لا تثق بالنخب نهائياً، والتي بدورها تؤول إلى حالة من التفسخ وتشكيل تحالفات سلطوية وشركاتية في مواجهة المجتمعات، ويشمل ذلك للأسف الشديد قيادات وفاعليات نقابية مهنية يفترض انها تعبر عن مطالب المجتمعات والطبقات الوسطى. وحتى نتعامل مع الظاهرة تعاملاً إيجابياً منتجاً فإننا في حاجة لأجل تمكين الطبقة الوسطى (وهي الدعوة والفكرة التي تتكرر كثيرا في أدبيات الحكومة الأردنية) إلى منظومة من السياسات تستبق الأزمة على نحو إيجابي، وليس إجراءات وقائية تهدف إلى مزيد من الضغط والحصار على المجتمعات والطبقة الوسطى والفئات المهنية والجامعية. لقد ثبت في التاريخ والجغرافيا أن المجتمعات تتحرك أساساً حول العدل والحرية، وثبت أنهما (العدل والحرية) المطلب الاكثر تجميعاً للناس، وما يعني المجتمعات والطبقات الوسطى في هذا المجال هو تكريس العدل والتنافس العادل في العمل والوظائف والعطاءات والانتخابات، وتحقيق العدالة الاجتماعية بغض النظر عن الانظمة والسياسات الاقتصادية المتبعة، وربط الانتخابات النيابية والبلدية والنقابية بالمصالح الأساسية للمجتمعات: الضرائب، والضمان الاجتماعي، والرعاية، وتحسين الخدمات والمرافق، تحسين الحياة ومستوى المعيشة والرفاه، وتمكين المجتمعات بالفعل من التأثير والمشاركة في الحياة العامة والسياسات، والمساهمة في صياغة وتعديل التشريعات على النحو الذي يخدم مصالح المجتمعات. المصالح ديبلوماسية إلهية، هي أفضل ما يجتمع الناس حوله، فالعدالة والحريات والعقد الاجتماعي، والتشريعات والمؤسسات والثقافة والفنون تشكلت أساساً حول مصالح الناس واحتياجاتهم، وبغير هذه المصالح أساساً للتجمع والتشكل تكون البرامج والأعمال عرضة للخواء والهدر، ولذلك فإن الخطوة الأولى في تنظيم علاقات المجتمعات مع الحكومة والشركات، هي تنظيم المصالح، ببساطة هي تنظيم وإدارة الضرائب والاستهلاك. ويفترض من الناحية التنظيمية أن تتوزع المجتمعات صيغتان للتشكل والتجمع: الأمكنة، والمصالح والأعمال والمهن، في الأمكنة يجب أن يكون حكم محلي مجتمعي فاعل وشريك في التنمية والخدمات، يملك/ يشارك في شكل أساس ورئيسي في التعليم والخدمات والمرافق الأساسية للمكان (المحافظة، البلدية، الحي) ويدير علاقات شراكة ندية ومتكافئة مع الشركات التي تورد الخدمات ومع الحكومة التي تنسق وتراقب وتشرف على تنظيم الأعمال والخدمات، وهكذا تنشأ المجتمعات، ومنظومة اجتماعية وثقافية تعبر عن هذه الموارد والاعمال وتضمن زيادتها واستمرارها وتجددها، فيقاس تقدم الثقافة وفاعليتها بمقدار تجديدها للموارد. وفي العلاقة بين الحكومات والشركات والمجتمعات حول تنظيم وإدارة الموارد (الماء والطاقة والزراعة والصناعة والتجارة، والخدمات) تنشأ الأعمال والمهن، ويكون التوازن في تنظيم هذه العلاقة بين الأعمال والسلطات والشركات والمجتمعات، وهكذا تتشكل وتنشأ المدن والتجمعات السكانية) وإن لم تكن للمدن علاقة صحية وطبيعية مع الموارد والأعمال فيكون هدف العمل والمجتمعات والنضال تصحيح هذه العلاقة، وهذا هو جوهر النضال والصراع والتعاون والتنافس والإبداع أيضاً، وفق ما تراه أفضل لتنظيم الموارد وتعظيمها، وينشأ أسلوب الحياة والسلوك الاجتماعي على النحو الذي يجعل الحياة أفضل، ويواصل تحسينها، ويكتشف ما يعوق ويمنع ما تتطلع إليه المجتمعات والطبقات، وفي الفرق بين ما تتطلع إليه وتدركه وتعيه المجتمعات وبين الواقع المتشكل يكون التنافس والمشاركة، والإبداع والاقتراحات والأفكار. وعندما تختل هذه المعادلة أو السلسلة من الأعمال والتشكلات ينفرط عقد المصالح والمجتمعات والسياسة والاقتصاد والثقافة، يجب التأكد أنها تعمل معاً وفي سلسلة تؤدي إلى بعضها البعض، الاحتكار مثلاً يمنع التنافس والعدالة، فتتراجع الديموقراطية والانتخابات، ويغيب الإبداع والتقدم، وتتخلف الثقافة والفنون، لأن غياب الحوافز يشكل منظومة فيروسية تصيب كل أدوات العمل وأوعيته بالخلل والارتباك. وهكذا يكون العقد الاجتماعي بين الناس والحكومات وجميع الفئات على حماية هذه المنظومة والتأكد من أنها تعمل وفق القواعد والمصالح المعبرة عن جميع الفئات والناس، وبغير ذلك فلا معنى للانتخابات والاحزاب والنقابات والجمعيات والثقافة والتنمية والإدارة والتعليم. * كاتب أردني