«لقد صنعنا إيطاليا، وعلينا الآن أن نصنع الإيطاليين»، فرديناند مارتينو، وزير التعليم الإيطالي عام 1869. يبدو الأردن اليوم بعد أكثر من تسعين سنة من قيام الدولة الحديثة (1921) دولة مستقرة راسخة، تشمل جميع سكانه شبكات التعليم والكهرباء والاتصالات والإنترنت والطرق، ويكاد يكون جميع مواطنيه من أهل الحضر المتعلمين، لم تعد فيه بداوة ولا أمية، ويتمتع بمؤسسات معقولة من التعليم والأمن والقوات المسلحة والجامعات والمستشفيات والوزارات والمؤسسات العامة والخاصة، وتمثل الطبقة الوسطى حوالى ثلاثة أرباع سكانه، ولا ينقصه ليكون دولة عصرية متقدمة سوى «الأردنيين». الأردنيون الذين كان لهم نوابهم المنتخبون في مجلس نواب الدولة العثمانية منذ منتصف القرن التاسع عشر (مثل رفيفان المجالي وعبدالقادر التل) وبلدياتهم المنتخبة (إربد 1881، السلط 1882، الزرقاء 1904، مأدبا 1904، عمان 1909) ونخب اجتماعية وسياسية وشعراء ومثقفون يملكون رؤية معقولة للمكان وأحلام الناس وتطلعاتهم، مثل عرار ومصطفى وهبي التل وعقيل أبو الشعر، يبدون اليوم وهم يتمتعون بنسبة متقدمة في التعليم الأساسي والجامعي والمهني مجاميع بشرية تائهة، كأنهم في مدن عشوائية، لا تغير من عشوائيتها وخوائها النسبة المتقدمة في جدار التعليم الأساسي والجامعي والمهني، فهم بلا أحزاب سياسية أو جماعات تأثير فاعلة أو منظمات مدنية حقيقية، أو حياة فنية وثقافية تنظم خيال الناس وتمضي به إلى حياة أفضل، لأنه وببساطة كان تحديثاً تجاهل المجتمعات والمدن وألحقها بالنخب الوافدة والعاصمة الجديدة! فلم تكن النخبة المؤسسة ترى الأردنيين، وكان الكثير منهم أيضاً لا يعرف نفسه كما يراد له أن يكون، ووافق ذلك بالطبع مزاج مؤثر نحو الهرب والاقتلاع و... الموقت! ولكنه موقت دام أكثر من تسعين عاماً. وظلت في ظل رواية تغييب المواطنة والعودة والتحرير وتطبيق الشريعة، تساق المجتمعات والطبقات ضد مصالحها وأولوياتها وتطلعاتها المفترضة، وتتواطأ النخب والنقابات المهنية والعمالية والإسلام السياسي لإشغال الناس بغير أهدافهم، وتحويل الطبقة الوسطى الواسعة الممتدة إلى جسم بلا قيادات ولا نخب تعبر عنها وتحمل مصالحها واحتياجاتها، فربما تكون في الأردن فقط النقابات المهنية والعمالية تابعة لأصحاب العمل ولا تفيد المجتمعات والتنمية، وتشتغل بالعلاج بالقرآن والاحتفال بالفتح الصلاحي! وباسم تحرير المسجد الأقصى يعطل الإصلاح والتقدم المهني وتدمر المجتمعات والمدن والأسواق. وليت ذلك يفيد المسجد الأقصى بشيء! وباسم مقاومة التوطين (الذي حدث منذ 60 عاماً) يسوق على الأردنيين الفساد وتسلط نخب فاشلة وفاسدة، وتكريس امتدادها لفروعها الفاشلة أيضاً، وباسم تحرير فلسطين يكرس الانفصال عن الواقع والسلبية والحياد تجاه الإصلاح، ويحيد نصف الأردنيين، ويكرس التشدد الديني، وقيادات اجتماعية منفصلة عن الإصلاح! وتتحول الانتخابات النيابية والبلدية والنقابية إلى نزاعات مناطقية وجغرافية وعشائرية، وتقسم في خضم هذا النزاع المناصب والفرص ولأجله تهمش المدن والمجتمعات، ويدمر التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، ويمرر الإنفاق العام المنحاز ضد الفقراء والطبقات الوسطى. الأردنيون اليوم يواجهون ما ظلوا يهربون منه أو يمنعون منه، وهو أن يشكلوا أنفسهم في مدنهم وبلداتهم ليتولوا هم بأنفسهم الطاقة والماء والتعليم والصحة والخدمات والتنظيم الاجتماعي والحضري والثقافة والفنون والرياضة والمعابد، ببساطة أن يكونوا مواطنين، يمارسون مواطنتهم، وتجمعهم ببعضهم تلك القضايا والأولويات التي تجمع كل المدن على هذا الكوكب، وأن يختلفوا ويتحدوا في تشكلهم وتجمعهم وفق الرؤى والبرامج والآراء التي تنشأ لتنظيم العلاقة بين الناس ومواردهم وأولوياتهم، وتحكم علاقتهم بالدولة والأسواق، فتكون هناك أحزاب سياسية وجماعات اجتماعية ومنظمات وجمعيات وشركات وأسواق ومدارس وجامعات وحدائق ومكتبات وصحف وإذاعات يمولونها هم بأنفسهم أو يشاركون في تمويلها وملكيتها، وبطبيعة الحال يمارسون الولاية على شؤونهم واختياراتهم، وفق ما يتشكل لديهم من أفكار وخيال! هذا هو الربيع الأردني المنتظر والمتوقع. * كاتب أردني