الحراك الشعبي والمجتمعي في الأردن المطالب بالإصلاح يكشف عن مستوى أزمة المجتمعات والأحزاب كما الحكومات، ويكشف أيضاً عمق الخلل المتراكم في العلاقة بين الواقع وبين رؤية الأحزاب والحكومات والمجتمعات والأفراد، والفجوة الهائلة بين الأجيال، وضياع الاتجاه لدى النخب والقيادات الرسمية والمجتمعية، أو ببساطة فإن المشهد يتشكل من جماهير غاضبة وتأمل بحياة أفضل من دون إحاطة بالتفاصيل والآليات، ولا تثق بالسلطة ولا بالأحزاب والمعارضة، والتي (الحكومة والأحزاب) تبدو في عزلة عن الواقع، ومن الطبيعي والمتوقع أيضاً أن تكون حال الجماهير والشارع بعامة متعلقة بالنهايات الكبرى الجميلة، وإن كان من الواضح أن لديها قدراً كبيراً من المعلومات، والمطالب والهواجس المحددة، ولكن ما ليس مفهوماً أن تكون السلطة والنخب في هذه الحالة من الغيبوبة. ففي حين يتشكل أكثر من 120 اعتصاماً حول قضايا عمالية ونقابية ومطلبية، وتتشكل مطالب عامة بالإصلاح الجذري برد الحكم والإدارة إلى العقد الاجتماعي والقيم الأساسية المنظمة للحياة، من العدالة والحرية، وتتشكل تجمعات مختلفة تطالب بالإصلاح دستوري أو ملكية دستورية ترد السلطة إلى الأمة، وتجعل كل من يحكم مسؤولاً أمام الشعب وممثليه، وعدالة التوزيع والضرائب، ومكافحة الفساد، إلى مطالب مبهمة أو تعبر عن الغضب والسأم، مثل حلّ البرلمان، وإصلاح النظام السياسي، وحكومة برلمانية منتخبة، تعلن الحكومة عن تشكيل لجنة للحوار الوطني... وتعد بقانون للانتخابات! وترد على الناس بسيل من الكتابات الصحافية التي تنتمي في محتواها إلى العصور الوسطى، وتكشف عن عقلية تظن أن الناس لا يقرأون ولا يشاهدون إلا إعلام السلطة!، أو تحشد جموع المؤيدين والموالين، والمحتفلين الفرحين بعيد ميلاد الملك!!، وكم تبدو المفارقة هائلة بين التجمعات على الإنترنت والفايسبوك والكتابات التي تقدم مطالب وأفكار متقدمة وناضجة تعبر عن مواكبة للعالم وما يدور فيه وبين سلطة ونخب تحسب أنه ما زال بمقدورها أن تحدد للناس كيف يفكرون ويشعرون، ولسان حالها وإن لم تنطق بذلك مثل مقولة القذافي «افرحوا امرحوا ارقصوا غنوا» كيف يمكن أن نفهم الحراك الإصلاحي في الأردن ونوظفه من غير هدر للوقت أو أزمات سياسية كبرى؟ كيف يمكن حماية الحراك الإصلاحي من الاستدراج والاختراق والزلل والانحراف والمماطلة والاستخفاف الحكومي؟ كيف تفهم النخب السياسية والقيادية أنها يجب أن تترك المجال لنخبة جديدة مختلفة، وأنه بغير ذلك فلا مجال للإصلاح، ولا للتفاهم أيضاً؟ كيف يعرف الإصلاح طريقه سلمياً وموضوعياً بعيداً من الشد والجذب والتجربة والصواب والخطأ. الإصلاح ببساطة هو تصحيح العلاقة بين الموارد العامة وإدارتها على النحو الذي يعيد توزيعها على المواطنين بعدالة وكفاءة ويجددها ويزيدها باستمرار، وينشئ مؤسسات ومنظومات اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية ناشئة عن هذه العلاقة الصحيحة والعادلة ومستمدة منها، وبطبيعة الحال فإن ذلك يعني إصلاح عمل المكونات الرئيسية للدولة، السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، والقطاع الخاص، والمجتمعات على النحو الذي يصحح هذه العلاقات. فلأجل حماية مواردها وتنميتها وتجديدها وتوزيعها بعدالة تنشئ الشعوب والمجتمعات أنظمة اقتصادية وسياسية واجتماعية تعبر عن ولايتها على مواردها وعن تطلعاتها هذه، وفي كفاحها الدائم للإصلاح أنشأت مجموعة من المبادئ والأفكار والثقافات المستمدة من ملاحظة الخلل في العلاقات بين الموارد وإدارتها أو ما يطور هذه العلاقة ويجعلها أفضل، وهكذا كانت قيم الحق والخير والجمال والعدل والحرية، ونشأت الهوية والفكرة الجامعة للمواطنين كأساس للعقد الاجتماعي والتجمع حول الأهداف والمصالح. ولتطبيق ذلك نبحث ونفكر على الدوام كيف تكون السلطة التنفيذية معبرة عن ولاية الناس على مواردها وبلادها، وكيف يمكن اختيارها ومحاسبتها، وفي انسداد الطريق أمام الاختيار العادل والمحاسبة لم يعد ثمة مجال إلا لملكية دستورية تفصل بين الحكم والملك، حتى تكون الحكومة مسؤولة أمام الشعب، وتكون أهمية الملك في التنسيق بين السلطات وحماية استقلالها عن بعضها، ولم يعد ثمة مجال للجمع بين رئاسة السلطات الثلاث والحصانة من المسؤولية والمحاسبة، فالحكم يعني المحاسبة بالضرورة، والحصانة تعني بالضرورة الفصل بين الملك والحكم، وهذا ما يقتضيه منطقياً الدستور الأردني، ولكن لسبب ما لم يطبق في واقع الحال، .. واليوم في مرحلة من الارتقاء الإنساني ورسوخ الديموقراطية، أصبحت السلطة المطلقة المحصنة من التساؤل عاراً على الإنسانية لا يجوز استمرارها. وهذا ينقل السلطة التنفيذية من كونها محصنة أو مقدسة أو وصية على الناس أو تتمتع بحق راسخ لا يمكن المسّ به إلى موظفين يختارهم الناس ويحاسبونهم على أساس تطوير وتفعيل الخدمات الأساسية في التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، والارتقاء بمستوى المعيشة والاحتياجات الأساسية في الصحة والتعليم والغذاء والسكن واللباس، والانتماء والمشاركة. ولأجل المشاركة مع السلطة التنفيذية وحماية الأفراد والمجتمعات من تغول السلطة عليها يجب تمكين المجتمعات والطبقات الوسطى للتشكل والتجمع حول مصالحها وأولوياتها، ولأداء دورها وامتلاكها الفرصة في التنافس العادل والارتقاء وفي إدارة شؤونها وأعمالها، وتطوير المؤسسات المعبرة عنها (الحكم المحلي والبلديات، والنقابات المهنية، ومنظمات المجتمع المدني) لتعبر عنها وتمثلها بعدالة وأمانة. والنخب التي تقود العملية السياسية والمجتمعية يجب أن تعمل في بيئة تجعلها قابلة للتدوير، بمعنى أن يكون الارتقاء في الوظائف والفرص في القطاع العام والخاص والمجتمعات على أسس عادلة من التنافس والتقييم والمراجعة، بحيث يرتقي الأفضل ويخرج المقصر. وفي تشكل المجتمعات والقطاع الخاص حول الموارد يتجه الإصلاح إلى تطوير وتشجيع الأعمال والمهن باعتبارها المورد الأساسي لمعظم المواطنين، ولامتلاك الفرصة في المشاركة في الاقتصاد العالمي القائم على المعرفة، وتطوير الزراعة والمياه والطاقة والصناعات والأعمال والمهن القائمة حولها باعتبارها المورد الأساسي العام للدولة والمواطنين وأساساً للانتماء للدولة والمكان والرواية المنشئة للمجتمعات والدول وأساساً لقيام ونشوء البلدات والتجمعات السكنية. وتتشكل في هذه الحالة علاقة تحتاج إلى مراقبة وإصلاح دائم، وهي العلاقة بين السلطة التنفيذية والقطاع الخاص، والعلاقة بين المجتمعات والقطاع الخاص، ومن المهم جداً في هذه المرحلة التي تتضمن كثيراً من الردة على الخصخصة والقطاع الخاص ألا تعود الدول والمجتمعات إلى مرحلة الدولة الراعية للاقتصاد والمجتمعات، ولكن يمكن أن تنشأ علاقات جديدة تقوم على المسؤولية المجتمعية للقطاع الخاص، ومواصلة تشجيع المبادرات الفردية، ودور القطاع الخاص في السوق والاقتصاد وتوريد الخدمات، ولكن الإصلاح يمكن أن يمنع التحالف المرعب الذي نشأ في مرحلة سابقة بين السلطة التنفيذية والقطاع الخاص، والذي حول الواقع إلى حكومات رجال الأعمال. وأخيراً تعبر عن هذه العمليات والحالات الناشئة منظومة ثقافية تقوم على تطوير وتشجيع الثقافة والفنون على النحو الذي يزيد الموارد ويجددها ويحسن حياة المواطنين، وينشئ منظومة من قيم التمدن والانتماء والمشاركة وأسلوب الحياة، وبالمحصلة الثقافية والاجتماعية الناشئة عن الإصلاح يمكن ملاحظة التقدم والنجاح، فعندما تنشأ حياة ثقافية وأساليب حياة جديدة تنشئ حياة مدنية وأنماطاً من الفكر والسلوك والفلسفة مستمدة من هذا الإصلاح والوعي المنشئ له، فهذا يعني ببساطة أن الإصلاح يسير في طريقه وأهدافه المفترضة. ولكن كيف ومتى يمكن إجهاض هذا الحراك الإصلاحي وتطويعه، أو متى يكون فاشلاً وبعيداً عن دوافعه وحوافزه المحركة له من البداية؟ * كاتب أردني