يمثل كتاب «السرد والاعتراف والهوية» للناقد والأكاديمي العراقي عبدالله إبراهيم، مرجعاً فريداً لمقاربة ما يسمى «أدب الاعتراف» وما يتفرع عنه من أنواع هي في صميمه مثل السيرة الذاتية والسيرة الروائية والرواية القائمة على قاعدة التجربة الذاتية. وقد تنضم إلى هذا الأدب «الاعترافات» وفق النموذج الذي عممه جان جاك روسو في كتابه الشهير الذي لم يخل من السرد ومعالم السيرة الذاتية. ولعل عنوان الكتاب نفسه يفترض «مثلثاً» أدبياً يرتكز عليه فضاء السيرة الذاتية بصفتها صنيعاً روائياً. فأدب الاعتراف هو على ارتباط وثيق بالهوية «المتحولة»، فردية كانت أم جماعية، والكاتب الذي يعدّه الناقد «صيرورة من التحولات»، لا يمكن انتزاعه من «الحاضنة الاجتماعية والثقافية». ومن الخطأ انتقاء «لحظة عابرة» والتركيز عليها في منأى عن سياقها الشامل. ويرى إبراهيم أن هذا الأدب هو محط شبهة وارتياب، فالقارئ يرى في جرأة الكاتب على كشف المستور وفضح المجهول، خروجاً على السياق الرسمي للأدب والمجتمع. وتدفع المخاوف في هذا الشأن، كتّاباً كثراً إلى «اختلاق تواريخ استرضائية» وإلى «ابتكار صور نقية لذواتهم» مؤثرين عدم الخوض في مناطقهم السرية. وما زالت غالبية من القراء والنقاد أيضاً، تتلقى أدب الاعتراف بصفته «جملة أسرار» أو «مدونة فضائح»، والأمر هذا انعكس سلباً على الكتّاب فراحوا يتحاشون ذكر الوقائع النافرة أو الفاضحة وغير المستساغة لدى القراء، وكأنهم يعمدون إلى تزييف التاريخ الشخصي والعام. وهذا يتعارض مع مهمة أدب الاعتراف الذي «يستبطن المناطق الخفية في حياة الأشخاص ثم المجتمعات». تمكّن عبدالله إبراهيم في هذا المفتتح الذي استهل به كتابه من إلقاء ضوء ساطع على «الإشكالية» التي يواجهها كتّاب «أدب الاعتراف» على اختلاف أنواعه، وهي تُعدّ من «الإشكاليات» الملحة في الأدب العربي الراهن، بخاصة في ميدان السيرة الذاتية. يعالج عبدالله إبراهيم في هذا الكتاب هذه «الإشكالية» بجرأة وعمق، معيداً النظر في معطياتها كافة، ومتطرقاً إلى أبرز تجلياتها عربياً وفي بعض الأدب العالمي. يختار الناقد قضية «السيرة والمنفى والأوطان المتخيلة» مدماكاً أول في بناء كتابه، وأقول «بناء» لأن الكتاب، على غرار معظم كتب عبدالله إبراهيم، ذو بنية وطيدة يكمل بعضها بعضاً، موضوعياً ومنهجياً. والمنفى كما هو معروف، بات في العقود العربية الأخيرة أحد أبرز القضايا التي تشغل الأدب والثقافة العربيين، نظراً إلى اتساع رقعة هذا المنفى وازدياد المنفيين، قسراً أو طوعاً، هرباً من بطش الأنظمة والمهانة والفقر، وبحثاً عن فسحة للعيش الحر واللائق. والمنفيّ وفق إبراهيم، هو الإنسان المنشطر بين الحنين الهوسي (نوستالجيا) إلى المكان الأول وعدم القدرة على العودة إليه. والمنفى هو حال من أقسى أحوال الشقاء، هو الاقتلاع والاغتراب المكاني والنفسي، هو التمزق والتصدع، هو الإحساس التراجيدي بالمصير الشخصي. والمنفى هو عدم الانتماء، مكان «طارئ ومخرّب»، ويفتقر إلى «العمق الحميم». والمنفي هو دوماً ضحية تعارض أو انفصام قائم بينه وبين المكان الذي رُحّل أو ارتحل إليه. ويصيب الناقد عندما يتحدث عن انطواء المنفي على «ذات ممزقة» يستحيل أن يعاد تشكيلها في كينونة منسجمة مع نفسها ومع العالم. أما أدب المنفى الذي يشكل تخيّل الأوطان والأمكنة الأولى، بؤرته المركزية، فهو يقدم تمثلات سردية عميقة لأحوال النفي التي تتضارب فيها المصائر والتجارب والثقافات واللغات. أدب منفى لا مهجر وفي بادرة مهمة وجديدة يدعو إبراهيم إلى إحياء جدل ثقافي يؤدي إلى إحلال مقولة «كتابة المنفى» محل مقولة «كتابة المهجر»، ومبرره أن هذين الأدبين (المنفى والمهجر) يختلف واحدهما عن الآخر اختلافاً واضحاً، فأدب المهجر حبيس نفسه في الدلالة الجغرافية، أما أدب المنفى فهو منفتح على سائر قضايا المنفى في العالم. ودعوة إبراهيم هذه يجب أن تلقى صدى في أوساط النقد فيعاد النظر فيها، لا سيما بعدما أصبح أدب المهجر وقفاً على مرحلة تاريخية معينة ومدرسة أدبية محددة، وبات جزءاً من تراث يجب وضعه على محك النقد الموضوعي. يتوسع إبراهيم في مقاربته لقضية المنفى وأدب المنفى ويتعمق نظرياً في قضاياه ويتناول نماذج راقية منه وأبرزها نموذج المفكر إدوارد سعيد في كتابيه «تأملات حول المنفى» و «خارج المكان» وهو سيرته الذاتية المكتوبة في المنفى. وقد يكون هذا البحث حول أدب المنفى من أهم ما كتب في هذا الحقل أدبياً، نظراً إلى شموليته وتعمقه في هذا الأدب الغني واعتماده النقد المقارن، وهذا النقد له موقعه أصلاً في الكتاب ككل. يتناول عبدالله إبراهيم من ثم قضايا تدور في فضاء عنوان الكتاب «السرد والاعتراف والهوية» ويخص «الهوية السردية والمدن المستعارة»، ببحث يجمع كالعادة بين النظرية والتطبيق. وفي منطلق هذا البحث يرى الناقد أن الهوية الفردية تشهد تحولاً جذرياً حين تندرج في سياق السرد، إنها تنتقل من صفتها «هوية ذاتية مجردة» إلى «هوية سردية» تتفاعل مع المكونات السردية الأخرى في الأدب. وعندما تصبح الذات موضوعاً للسرد تكتسب معنى آخر في تيار الحياة. ومن البيّن أن السرد الذاتي يولي الزمن كبير اهتمام بصفته الإطار الخارجي الذي ينتظم الأحداث ومن خلاله يمكن استرجاع الأمكنة. هنا، يختار إبراهيم كمجال للنقد التطبيقي والقراءة الكامنة سيراً ذاتية عدة تصب في صميم البحث، وهي: «المدينة الملونة» للروائي حليم بركات، «الجمر والرماد» للكاتب هشام شرابي، «سيرة مدينة» لعبدالرحمن منيف، «أية حياة هي؟» لعبدالرحمن مجيد الربيعي، «اسطنبول: الذكريات والمدينة» للروائي التركي أورهان باموك. وانطلاقاً من هذه السير الذاتية يستخلص الناقد ملاحظات ومعطيات مهمة تؤازره في ترسيخ مشروعه النقدي هذا. في بحث «السرد والاعتراف وإعادة تعريف الهوية» ينطلق من سؤال إشكالي: «من يجرؤ على الاعتراف؟»، ويسعى إلى الإجابة عليه بدءاً من نص لأورهان باموك عنوانه «حقيبة أبي» وهو الكلمة التي ألقاها في احتفال نوبل الذي تسلم فيه الجائزة. ثم يتوقف عند كتاب «عراقي في باريس» للكاتب صموئيل شمعون الذي يبحث فيه عن معنى حياة انقضت وهو البحث الذي يلازم أدب الاعتراف. وتتوالى الكتب الأخرى في هذا السياق: «مزاج التماسيح» للروائي رؤوف مسعد، «اليهودي الحالي» لعلي المقري. الرواية اليهودية العربية أما البحث التالي وعنوانه «الهوية الملوثة والنجوع التوراتي» فهو من أشد الأبحاث فرادة وريادة، لكونه يتطرق إلى مشكلة الهوية كما تجلت في الرواية اليهودية المكتوبة بالعربية، أو الرواية التي كتبها روائيون يهود في العالم العربي وعبروا عن أحوالهم وأحوال طائفتهم. إنها رواية الهوية اليهودية كما برزت في بيئة ثقافية عربية - إسلامية. ويلحظ إبراهيم أن هذه الروايات تشتمل على رغبة هوسية في ذكر التفاصيل الشخصية انطلاقاً من الشعور بالاقتلاع وعدم الاندماج، وهاجس البحث عن هوية بديلة تخطياً لما يسميه «هوية ملوثة»، مع الرغبة في الإبقاء على الهوية الأصلية. لعل هذا البحث هو من الأبحاث النادرة التي تتناول الرواية اليهودية المكتوبة بالعربية، وهي رواية تستحق التوقف عندها ودراستها تبعاً لأهميتها السياسية و«الوجودية» والقضايا التي تطرحها والعلاقة التي ترصدها بين أقلية وأكثرية. وقد اعتمد إبراهيم معظم الروايات المهمة في هذا الحقل المشترك، منطلقاً من أسئلة إشكالية مثل: هل تدرج هذه الروايات في سياق الرواية العربية أم اليهودية؟ هل يمكن تصنيفها استناداً إلى اللغات التي كتبت بها أم إلى الموضوعات التي عالجتها؟ أما الروايات التي يتناولها فهي لكتاب عراقيين يهود: «وداعاً بابل» لنعيم قطان، «فيكتوريا» لسامي ميخائيل، «فريدة» لنعيم قطان، «شلومو الكردي وأنا والزمن» لسمير نقاش، إضافة إلى رواية الكاتب الإسرائيلي عاموس عوز «قصة عن الحب والظلام»، وشاء الناقد الانطلاق منها لأنها تقدم مفهوم الهوية اليهودية من المنظور نفسه للروائيين اليهود العرب. وهذا البحث قد يكون منطلقاً لإنشاء نقد عربي يتناول هذا الأدب الثري والحافل بالمتناقضات والصراعات الداخلية والهواجس، والذي لم يحظَ عربياً بما يستحق من قراءات ومتابعات نقدية. يبدو كتاب عبدالله إبراهيم وكأنه أكثر من كتاب، كل فصل أو مبحث فيه يحتاج إلى مراجعة مفردة على رغم الخيط الداخلي المتين الذي ينتظم الأبحاث والفصول جاعلاً إياها مشروعاً نقدياً واحداً. في البحث «هويات سردية أم أقنعة للتنكر؟» يتناول الناقد موضوع الهوية السردية المتحولة ارتكازاً على مبدأ مواجهة الجماعات (أقليات عرقية أو مذهبية) تحولاتٍ كبرى تدفع بها إلى اكتساب هويات جديدة وإلى التخلص من القديمة، وهنا يسعى الأفراد إلى استعارة أقنعة في هدف تخطي الأزمات التي يواجهونها. ويتناول في هذا الفصل الروايات الآتية: «حرس التبغ» لعلي بدر، «الحفيدة الأميركية» لأنعام كجه جي. أما البحث الذي يليه وعنوانه «السيرة الروائية والهوية والتهجين السردي» فهو غاية في الأهمية لكونه يعالج مسألة التهجين السردي الذي تتميز به السيرة الذاتية في جمعها بين السيرة والرواية. وليس من معنى سلبي للتهجين هنا، فالمقصود هو «التركيب» الذي يستعير عناصره من أنواع لها شرعيتها الأدبية ويعيد صوغها وفق قواعد تلائم هذه الكتابة المختلفة التي تختلط فيها الوقائع والتخيلات. لكن الشخصية لا تتقيد بشروط السيرة الذاتية التي تقتضي المطابقة مع الأحداث التاريخية ولا تتحلل منها كما يحصل في الرواية. وفي هذا الفصل تبرز مرجعيات مهمة منها: تودوروف، جورج ماي، فيليب لوجون وسواهم. ومن الروايات التي يتناولها: «الخبز الحافي» و «الشطار» لمحمد شكري، «أصداء السيرة الذاتية» لنجيب محفوظ، «بقايا صور» لحنا مينة، «خلسات الكرى» لجمال الغيطاني، «الحب في المنفى» لبهاء طاهر، «مرايا ساحلية» لأمير تاج السرّ وسواها. أما في بحث «الارتحال والاكتشاف وصوغ الهوية»، فيتوقف عند روايات أجنبية وعربية يغدو الارتحال فيها وسيلة عبور من المجهولية إلى المعلومية، ما يدعو إلى إعادة صوغ الهوية. ومن هذه الروايات: «مسيو إبراهيم وزهور القرآن» لإريك إيمانويل شميت، «شيفرة دافنشي» لدان براون، «اسم الوردة» لأمبرتو إيكو، «أمريكانلي» لصنع الله إبراهيم، «شيكاجو» لعلاء الأسواني، «مدينة الرياح» لموسى ولد إبنو. أما الفصل الأخير «كذب أبيض وغش سردي وسوء تأويل»، فهو يتطرق إلى قضية فريدة لا يتم الانتباه إليها غالباً، وهي الترجمة بصفتها مادة وحيلة سرديتين. ويرى إبراهيم أن السرد قدم موضوع الترجمة إما عبر التأليف عندما يتنكر المؤلف وراء قناع المترجم، محاولاً التبرؤ من النص، مدعياً أنه مجرد ناقل له من مصادر أخرى، وإما من خلال تأدية الشخصية دور المترجم. والروايات التي يعتمدها في هذا القبيل: «عزازيل» ليوسف زيدان، «ابن سينا والطريق إلى أصفهان» لجيلبير سينويه، «المخطوط القرمزي» لأنطونيو غالا، «ليون الأفريقي» لأمين معلوف، «العلامة» لبنسالم حميش، «المترجم الخائن» لفواز حداد... وختاماً لا بد من القول إن مقالاً قصاراه تقديم كتاب في صحيفة لا يمكنه أن يحيط إحاطة شاملة بمثل هذا الكتاب الفريد في حقله وما يتفرع عنه، وهو حقل «أدب الاعتراف» الذي يشمل في ما يشمل، قضايا السيرة الذاتية والسيرة الروائية والرواية السير – ذاتية والهوية والمنفى والتقنع والتهجين والترجمة... واللافت أن المؤلف جعل من الكتاب مرجعاً لقراءة ظواهر «أدب الاعتراف» وروايات تدور في فلكه. هذا مرجع لا بد من العودة إليه والانطلاق منه لبناء نصوص نقدية جديدة. «السردية العربية الحديثة» في كتابين بيروت - «الحياة» النصوص السردية وبخاصة الرواية، أضحت اليوم من الأنواع الأدبية الأكثر انتشاراً في العالم، إلى حدّ أنّ بعضهم ذهب إلى اعتبار عصرنا «عصر الرواية». وانطلاقاً من كون الرواية واحدة من «المرويات الكبرى» التي تساهم في صوغ الهويات الثقافية للأمم، بحيث أنّ السرد يؤدي وظيفة تمثيلية مهمة، أصدر الباحث العراقي عبدالله ابراهيم كتاباً بعنوان «السردية العربية الحديثة» في جزءين. يقتفي الجزء الأول موضوع «تفكيك الخطاب الإستعماري وإعادة تفسير النشأة»، ويسعى الكاتب من خلاله إلى بناء السياق الثقافي لنشأة السردية العربية الحديثة، ويتطلّع إلى استعادة التفاعلات الثقافية، في القرن التاسع عشر، التي شهدت انهيارات نسقيّة في مفهوم الأدب، وتحلّل أبنية السرد القديم، وبداية تشكّل الأنواع الجديدة. والجدير ذكره أنّ هذا الكتاب لا يمتثل للفرضيات الشائعة حول نشأة تلك الظاهرة، إنما يدعو إلى التحرّر من هيمنة الخطاب الإستعماري الذي رسّخ جملة من التصورات الشائعة التي صاغت الوعي النقدي صوغاً قاصراً. أمّا الجزء الثاني من الكتاب، وعنوانه «الأبنية السردية والدلالية» فيرصد تحولات الرواية وانتقالها من كونها خطاباً تعددياً منشبكاً بالخلفيات الثقافية الحاضنة له، وقد أفضى كلّ ذلك إلى ظهور عوالم سردية متنوعة في قيمها وتصوراتها ومواقفها، فلم يُسجّل السرد واقعاً أو يعكس حقيقة، بل قام بتركيب عوالم متخيلة مناظرة للعوالم الواقعية. لكنّها مختلفة عنها، إلاّ حينما يدخل التأويل في كشف بعض أوجه التماثل في ما بينها، فالعوالم المتخيلة من نتاج التمثيل السردي.