غالباً ما يجد القارئ العربي نفسه في حال من الحيرة أمام مقولة «النص»، لا سيما عندما يصادفها على غلاف أحد الكتب السردية أو في المراجعات النقدية الأدبية. ومصدر الحيرة يكمن عادة في المعنى الملتبس الذي تثيره هذه المقولة التي تبدو متحررة من ربقة الجنس الأدبي أو النوع، والتي لا تفصح عن هوية معينة على غرار ما تندّ عنه مثلاً كلمة رواية أو قصة أو قصيدة وسواها. ماذا يعني النص؟ هل المقصود نوع أدبي لا عهد ل «التجنيس» الأدبي به سابقاً؟ أم أن هذه المقولة تهدف إلى إلغاء التخوم بين الأنواع كافة لترسي مفهوماً هجيناً لا مواصفات جاهزة له؟ الناقدة الأكاديمية المغربية زهور كرام تولي قضية «النص» الاهتمام الذي تستحقه في كتابها الجديد «ذات المؤلف: من السيرة الذاتية إلى التخييل الذاتي» (دار الأمان - الرباط 2013) لتخرج بخلاصات تعيد، كما تعبر، «الانتباه إلى المنطق الداخلي الذي يتدبر شأن تكوين النص»، ساعيةً إلى «إنتاج وعي بالنص انطلاقاً من بنيته الداخلية التي تعيش التحول باستمرار». وهذا الوعي لا بد له من أن يؤثر في تحرير الشكل المألوف للنص دافعاً إياه للانفتاح على «أشكال متعددة ومختلفة» وفق مرونة عناصره الداخلية وحيويتها. إلاّ أنّ هذا الانفتاح أو التحرر لا يعني نفي سؤال الأجناس الأدبية الذي يرافق تشكل النص الأدبي في بنائه وتحولاته، كما تقول الناقدة. وهي ترى أن الرواية هي الأكثر استفادة من استخدام «النص»، وأنّ التجريب هو من أهم تجليات انفتاح النص الروائي على التحول. ولئن عمدت الناقدة إلى اختيار نماذج من الأدب الروائي المغربي الجديد مادة للتطبيق مقابل المدخل النظري المهم، فإنّ مقاربتها النقدية هذه هي خير طريقة لقراءة الظاهرة عربياً، بخاصة أن مفهوم «النص» بات يشغل الأدب العربي الحديث عموماً. وهي وفّقت في اختيار أسماء وأعمال ومحاور مهمة: ليلى أبو زيد («رجوع إلى الطفولة»: نحو إنتاج مفهوم جديد للسيرة الذاتية في كتابة المرأة)، محمد برادة («امرأة النسيان»: أسئلة في الرواية والسياسة)، عبد القادر الشاوي («مَن قال أنا»: تخييل ذاتي بحضور المؤلف)، عزالدين التازي («امرأة من ماء»: محكيات ذاتية)، سعيد علوش («تاسانو ابن الشمس ملعون القارات»: رواية الرواية)، محمد أنقار («باريو مالقة»: سرد ذاكرة المؤلف)، نفيسة السباعي («نساء في الصمت»: التحول التجنيسي في الترجمة). وبحسب ما توحي العناوين والمحاور، فإنّ الناقدة سعت إلى معالجة قضية «النص» من خلال تجلي ذات المؤلف، بين السيرة الذاتية والتخييل الذاتي. وهي اختارت هذه الأعمال الروائية ترسيخاً لبحثها عن الذات كما تجلت في الكتابة أو ما تسميه «تذويت الكتابة» من خلال السيرة الذاتية والمحكيات والتخييل الذاتي والسيرة الذاتية الروائية والرواية السير ذاتية. وتبرز في هذا السياق «جرأة» الكتّاب المغاربة على خرق حدود الأجناس الأدبية التي تصفها ب «المؤسسة» عبر تخطي تعيين النص بالمفهوم المتداول نقدياً (الرواية)، واعتماد هوية جديدة توافق حضور «ذات» المؤلف. وفي رأيها أنّ عوامل عدة تكمن وراء هذا الانفتاح على الذات الذي ساهم في إنتاج وعي نقدي بوضعية الكتابة المغربية الراهنة ومنها: 1- رواج السيرة الذاتية في الأدب المغربي منذ عام 1983 عبر أعمال لكتاب من أمثال: مليكة الفاسي، التهامي الوزاني، عبد المجيد بنجلون وسواهم، 2- التحولات السياسية التي شهدها المغرب في الحقبة الأخيرة أنتجت مناخاً أتاح الفرصة لبروز الذات بصفتها موضوعاً للكشف والبحث والفضح ومادة للتساؤل عما حدث ويحدث وللتأمل فيهما، 3- تجربة السجن التي أوجدت نصوصاً مرتبطة ب «الذات» وخلقت أشكالاً تعبيرية تنتمي إلى «الأدب الشخصي» مثل المذكرات واليوميات والرسائل والاعترافات وسواها، 4- العلاقة بين الإبداع والنقد التي رسخها بعض الروائيين -النقاد ساهمت في ترسيخ الوعي الأدبي الجديد ب «الذات»، 5- الدور الإبداعي الذي أدته المرأة الكاتبة. نجحت الناقدة زهور كرام في خلق معادلة نقدية لخطاب «الذات» في الكتابة السردية المتعددة الأشكال، وتمكنت من إيجاد أفق نظري لهذا الخطاب انطلاقاً من العمل التطبيقي واستناداً إلى نصوص سردية تتراوح بين السيرة والتخييل الذاتيين. ولعلها ساهمت مساهمة مهمة في «تجنيس» الكتابة غير القابلة للتجنيس أو ذات الهوية «التجنيسية» الملتبسة، ولكن من غير أن تأسرها في خانة التصنيف المغلق، بل هي حررتها من المعايير أو المقاييس الثابتة والجاهزة. وتوضح الناقدة أبعاد مشروعها النقدي ملمحةً إلى أن الحديث عن «ذات المؤلف من السيرة إلى التخييل الذاتي» يمثل عودة مختلفة لمعنى المرجع في السيرة الذاتية ووضعية هذه الذات داخل النص، وهي وضعية تختلف عن السيرة الذاتية المعروفة والتي تقوم على مبدأ «المطابقة» الذي جعله الناقد الفرنسي فيليب لوجون مفهوماً جوهرياً في نظريته التي تضمنها كتابه الشهير «ميثاق السيرة الذاتية». فالسيرة الذاتية تتحقق عبر حال من التطابق بين المؤلف والسارد والشخصية. وهذا ما يتم الانزياح عنه في الوضعية الجديدة للذات في الكتابة كما تقول الناقدة. وهكذا تتم العودة داخل النص في هدف معاودة إنتاج الوعي ب «ذات» المؤلف ليس بكونها مرجعاً للحكمة والمعرفة والحقيقة، بل عبر «قراءة الذات من أجل إنتاج إدراك بها، وفق منطق التخييل ولغة الإبداع». وتنتهي الناقدة في مسار بحثها الفريد إلى أن الذات، في وضعها السردي الجديد، تنتقل «من مصدر المعرفة إلى موضوع للتأمل، من موقع اليقين إلى اللايقين». وهنا تحضر الكتابة كوسيط تخيلي تتحقق من خلاله المفارقة بين الذات-المرجع الواقعي والذات-الموضوع المحكي. هكذا يجد الكاتب نفسه أمام ذاته وقد استحالت عبر التخييل السردي، مادة للتأمل. الناقدة المغربية زهور كرام هي واحدة بين قلة من النقاد العرب تولي قضية «ذات» المؤلف اهتماماً جوهرياً، في تجليها داخل أفق السيرة الذاتية والتخييل، نظرياً وتطبيقياً، وتسعى إلى إيجاد نقد جديد يُعنى بهذا المنحى المختلف من الكتابة، الذي بات رائجاً في الآونة الأخيرة.