يقول أدوارد الخراط في كتابه: مجالدة المستحيل (أما عن تجارب الحب التي مررت بها فإن قصص الحب لا تحكى.. ولكن من يقرأ رواياتي وأشعاري.. يعرفها جيداً ويعرف دقائق منها.. وخفايا المشاعر التي لا تجد تعبيراً عنها إلا في الفن حقيقة..) فالخراط هنا يعلنها صراحة، كأحد الأسماء في مشهدنا العربي التي تطرق أبواب (أدب الاعتراف) دونما تحفظ.. إلا أن مسألة صفاء الأجناس الأدبية السردية ضرب من المحال.. مما يجعل هذا التداخل طاغياً على العديد من الفنون السردية التي يأتي في مقدمتها الرواية والسيرة الذاتية، وقصيدة النثر والخاطرة.. لأسباب يشترك فيها المبدع نفسه من جانب، وفي جانب آخر يشترك المتلقي في هذا التداخل والذي يمثله المتلقي والناقد كمتلق أيضاً.. مما يخلق تداخلاً مخاتلاً للمتلقي. بين الرواية والسيرة في مشهدنا المحلي حكاية من التداخل، هذه الحكاية يتشكل نسيجها السردي بتشكلات السيرة الذاتية وخاصة في الأعمال الروائية الأولى التي يرى الناقد محمد العباس بأن الأعمال الروائية بشكل عام وخاصة الأعمال الروائية الأولى إذا ما أمعنا فيها قليلا من النظر فسنجدها تنحى منحى السيرة الذاتية. ومضى العباس قائلاً: الإشكالية في الأساس تعود إلى عدم توطين أدب الاعتراف في أدبنا العربي، وبالتالي فالروائي أو الروائية يرفض أي صلة للعمل الروائي بسيرته، ومن ثمَّ نفي كل ما قد يمت له بصلة كسيرة، حتى لا يكون الروائي أو الروائية عرضة للتلصص والمساءلة وغير ذلك. وأضاف محمد قوله: في تصوري أن أي قراءة لأغلب المنتج الروائي في مشهدنا المحلي، ستكشف عن شذرات وإشارات كثيرة تشير إلى جوانب ملموسة من السيرة الذاتية للكتاب مهما تعالت أصوات نفيهم فالقارئ سيجد في الأعمال الروائية بشكل عام ما يكشف عن طبيعة الشخصية الروائية من خلال الاهتمامات الثقافية والنفسية، التي تظهر في الأمكنة وفضاءاتها، وفي حركة الطبيعة الشخصية للكاتب من خلال العديد من المسارات التي تتكشف للقارئ في سرد الكاتب.. إلا أن أغلب هذه الأصوات الروائية تتنصل من أعمالها الروائية التي تحكي جانباً من سيرهم الذاتية. أما عن رفض الروائي والروائية وصف أعمالهم الروائية بالسيرة الذاتية قال العباس: أنا أرى أن ظاهرة الرفض والتنصل أصوات ستظل مرتفعة لدى كُتَّاب الرواية الذين يرفضون علاقاتها البتة بجانب السيرة الذاتية وسيستمر هذا المجال لدى الكثير من كُتَّاب الرواية إلى أن يصلوا الى مرحلة النضج والتجرد، التي قد تعيدهم الى البوح والإفصاح بتجرد يصحبه الوعي، مما يفرض إعادة تلك الأعمال في قوالب ناضجة قد لا تكون روائية، فالوصول إلى هذه المرحلة من البوح والنضج والتجرد يعني أن الروائي أو الروائية استجاب لكثير من المساءلة والأسئلة التي تنطلق من أعماق الذات من الداخل قبل أن تصل إليه من الآخر الخارج. أياً كان تعالي تلك الأصوات، ومدى ما تختزنه من أدلة وبراهين في سردها يفصح عن منحى العمل السردي باتجاه الرواية، فإن وجود أدلة وبراهين أخرى تجعل المتلقي الناقد والمتلقي القارئ على حد سواء أمام ما يبرهن على تجليات السيرة الذاتية مهما ساندها من تبرير تارة ورفض تارة أخرى. الدكتور عالي بن سرحان القرشي تناول هذه العلاقة من خلال تلك البراهين والأدلة السردية فقال: هناك تماه ظاهري بين السيرة الذاتية والرواية، إلا أن هذه التماهي عندما ننظر إليه من خلال أحداث السيرة الذاتية، أو من خلال أحداث الرواية يمكن أن نصل إلى انطباق السيرة والرواية على شخص ما.. ولكن يجب ألا يخدعنا هذا التماهي بوجود حكاية عن سيرة.. فكتابة الإنسان عن ذاته.. اتجاهاته.. تفاصيله.. نجاحاته.. إخفاقاته.. ما هي في الواقع إلا حجاب عن مسار الحركة الواقعية التفصيلية لمساره، ذلك لأن الكتابة تتدثر باللغة، واللغة عملية استنباء والتقاط واقتناص.. ثم أن اللغة علاقاتها ودعوتها المواربة للارتقاء وتغيير مسار الحدث وذلك للالتصاق بما يتداعى من اللغة وما تمليه سياقاتها، إلى جانب الحجاب الاجتماعي.. ووساوس الهيبة والخشية من الانكشاف. وختم د. القرشي حديثه حول هذا الجانب قائلاً: كل ما ذكرته آنفاً يؤدي إلى ما يمكن أن نسميه سيرة إلا أنها في الواقع تجربة روائية استندت إلى السيرة، في وقائع وعناوين.. وتدثرت في حجاب اللغة وحجاب السياقات الاجتماعية. وعن إشكالية تقاطع السيرة الذاتية مع الرواية يرى الدكتور صالح معيض الغامدي بأنها إشكالية معقدة ومتعددة الأبعاد.. وينبغي على من يتورط من الدارسين في مناقشة هذا الموضوع أن يكون حذراً وخصوصاً عندما يكون منطلقاً أساساً من دراسة الرواية. يقول د. الغامدي: كثير من الدارسين عادة ما يتورط في قراءة كثير من الروايات وخاصة السعودية من منطلق أنها سير ذاتية كتبها كُتَّابها لأسباب متعددة تحت مسمى الرواية. وأشار د. معيض في دراسة كتبها بعنوان (سير ذاتية الرواية السعودية) إلى المخاطر الكامنة في مثل هذه القراءات على الأعمال الروائية وعلى كتابها على حد سواء. فهي قراءة مفقرة للرواية فنياً ومورطة للكاتب أخلاقياً. وأضاف د. صالح بأن إشكالية تداخل الرواية مع السيرة الذاتية عادة ما تأتي من المنظور القرائي أو النقدي وليس من المنظور الإبداعي، فالمبدعون أعني الروائيين نادراً ما يتوقفون عند هذه الإشكالية توقفاً واعياً، فهم يكتبون الرواية بوصفها عملاً فنياً تخييلياً، يوظفون فيه جوانب من تجاربهم الحياتية المعيشة والمشاهدة والمقروءة.. إلخ. ومن هذا المنطلق ينبغي أن نميز دائماً بين السيرة الذاتية التي يكتبها كاتبها ويعترف صراحة بنسبتها الأجناسية إلى السير الذاتية وبين الرواية التي يكتبها كاتبها من هذا المنظور ويوظف فيها قدراً من تجاربه الحياتية. فالأولى سيرة ذاتية والثانية رواية ذات ملامح سير ذاتية. وهناك فرق كبير بين النوعين. ونبه د. معيض في ختام حديثه قائلاً: أما فيما يتعلق بمقولة يكثر تردادها من أن الرواية الأولى لا بد أن تكون سيرة كاتبها الذاتية فهي مقولة كثيراً ما تكون مضللة ينبغي علينا الحذر من مغبة الاستسلام لها. ولعل أول من يعترض على هذه المقولة كُتّاب الرواية وكاتباتها أنفسهم كما سبق أن لاحظت في دراستي التي أشرت إليها آنفاً.