يلتقط الروائيّ الكرديّ صلاح الدين بولوت في روايته «العاجز» (ترجمة مروان علي، منشورات كلمة، أبو ظبي 2013) آثارَ السجن القاهرة على السجين بعد خروجه من السجن لفترات طويلة. تلك الآثار التي تحفر عميقاً حتى ان الانعتاق من السجن يغدو ضرباً من المستحيل حتّى بعد انتهاء مدّته والخروج إلى نور الحرّية المفترضة المنشودة. ينهل بولوت المولود في قرية ديريك على أطراف مدينة ماردين (1954) من تجربته الذاتية في السجن، ولا سيّما أنّه اعتقل في أعقاب الانقلاب العسكري في تركيا 1980 وبقي في السجن ثماني سنوات. أصدر بعد خروجه أعمالاً أدبيّة حظيت بالمتابعة والاهتمام، وحجز لنفسه مكاناً في أدب السجون المنتعش في ظلّ الديكتاتوريّات. بطل رواية «العاجز» زيهات، شابّ كرديّ تلقي السلطات التركية القبض عليه، ترميه في سجن ديار بكر عشر سنوات، يُذاق هناك شتّى صنوف العذاب على أيدي سجّانيه، وتظلّ ممارسات الجنود واشمة روحه وكيانه وجسده، لا يفلح في التخلّص من تداعياتها وتأثيراتها عليه، يظلّ مكبّلاً بها لأنّها أصابته في مقتل. يستهلّ بولوت روايته بتصوير منزل خليل بيك والحشد المتجمهر فيه استعداداً لاستقبال الابن الخارج من السجن، يجتمع الأهل والأقارب في انتظار لحظة وصول زيهات. مظاهر البهجة تعمّ الجميع وتسود القرية. في الجانب الآخر يبتئس زيهات وهو على أعتاب الخروج إلى العالم خارج أسوار السجن وقيوده المهلكة. يتردّد في تخطّي عتبة السجن إلى عالم مواجهة الحقيقة المريرة في الواقع؛ حقيقة كونه أصبح عاجزاً بعد انتهاك إنسانيّته وجسده، والتنكيل به على أيدي سجّانيه الذين تفنّنوا في إيذائه وتعذيبه حتّى أفقدوه رجولته. يكون الاحتفاء بزيهات وخروجه من جانب الجميع، كلّ على طريقته، أمّه تحتفي به بتحضير مختلف أنواع الأطعمة له، على طريقة النساء في محاولة إسعاد أبنائهنّ الغائبين، ووالده يسارع في تلبية طلبات البيت والاستمتاع برؤية ابنه محرّراً، كما يكون إخوته وأخواته مبتهجين يلتفّون حوله، يتجاذبون معه الأحاديث في مسعى للترويح عنه، ودفعه إلى الاندماج في المجتمع الذي حُرِم منه لعقد من الزمن. يرسم بولوت الغربة التي اجتاحت روح زيهات إثر خروجه من السجن، تلك الغربة التي بدأت مع الخطوة الأولى لخروجه، واستمرّت إلى لحظة تيهه وضياعه في زحام إسطنبول وشوارعها. يصوّر اللحظات التي شعر فيها بالاغتراب عن المجتمع الذي اشتاق إليه، وكيف أنّه لم يعد يطيق جوّ البيت الذي كان يتمتّع فيه بالدفء والحنان سابقاً، كما أنّه تردّد في إبلاغ رفاقه من الحزب برغبته في النأي بنفسه عن العمل النضاليّ، وأنّه دفع ضريبة ذلك الكثير من عمره وجسده وأحلامه التي انكسرت في متاهة الواقع وعتمة السجن القاهرة. الأجواء المحيطة بزيهات تبدو غريبة عليه، يتفاجأ بحجم التغيير الذي طاول كلّ شيء، يخبره رفيقه جمال بأنّ الانقلاب العسكريّ جهد لتغيير وجه المدينة وعادات الناس، دفع شريحة الشباب إلى التشرّد والتشتّت وهجر القيم النضاليّة وأفسح المجال لتسريب ما كان ممنوعاً سابقاً من خمور ومخدّرات لدفع الشباب إلى مستنقعها، وكيف أنّ قسماً من الرفاق المناضلين حاولوا التمويه على انتمائهم باللجوء إلى تلك الحانات، فأدمنوها ونسوا نضالهم السابق وأحلامهم الكبرى. كما يعرف أنّ قسماً آخر هاجر إلى أوروبا بحثاً عن الأمان المفقود وترك العمل النضاليّ. يحار بطل الرواية في ما يفعل، يتخبّط في حرقته ووحدته وبؤسه، يخشى من مصارحة أمّه وأبيه وأهله بمصابه، فيفضّل أن يفجعهم برحيله على أن يفجعهم بخبر إفقاده رجولته من جانب سجّانيه. الفتاة التي ظلّت تنتظر خروجه، لا يجد مناصاً من تلك القسوة ليداري بها عجزه ويأسه، يبحث في هجرته عن دواء لمصابه، يستعين بصديقه في إسطنبول، يزور طبيباً أرمنيّاً يصف له بعض الوسائل المساعدة للتحسّن. يُغرق نفسه في بحر الغربة ليداوي عجزه القاتل، يلوذ ببائعات الهوى لكنّه يعجز عن الإقدام على الفعل، فيكتئب أكثر فأكثر. يشير بولوت إلى ديمومة حالة العجز وارتهان المرء للسجن الذي يصبح غولاً ينهشه ويمنعه من استكمال حياته التالية. كما يرمز بالعجز إلى تلك الحالة المتعمّمة، وبخاصّة الروحيّة التي يعجز فيها المرء عن التواصل مع محيطه وأصدقائه، ويبقى مرتهناً للماضي ومآسيه، ولا تعود حالة العجز الجسديّ غير تجلٍّ من تجلّيات الاستلاب الذي يظلّ ملازماً للإنسان. كما لا يبقى العجز وصمة عار للمصاب، بل تكون وصمة عار لجلّاديه الذين أفقدوه القدرة على إكمال حياته في شكل طبيعيّ. تقارب «العاجز» عوالم السجن الكابوسيّة بين الداخل والخارج، وتصوّر مفارقات المواجهة المحتّمة بين الذات والآخر، وحالة العداء المتأصّلة والعنف الناجم عنها، وتداعيات ذاك العنف المتجدّد. كما تصوّر فقدان المجتمع لهويّته ودفعه الأفراد إلى الضياع لعدم النجاح في احتضانهم وعدم المقدرة على المبادرة، لأنّ تعطيل الجسد ينعكس على العطالة السائدة، كما يدلّ على تعطيل شرائح اجتماعيّة تظلّ أسيرة النظرة الاستعلائيّة من جانب السلطات التي تجهر برغبتها في إعادة الوئام وتجاوز الخلافات وردمها، في حين تبقي القيود مفعّلة باطّراد.