كثرٌ هم الكتّاب الذين كتبوا عن السجن وعوالمه، قاربه كلّ واحد بطريقة مختلفة، ومن زاويته المتفرّدة، بحيث ينفتح عالم السجن المعتم على أجواء رحبة من الإبداعات الأدبيّة، تتناسب التجربة المريرة عكساً مع جماليّة المنتج الأدبيّ الذي تشكّل جذوته المستعرة، إذ تبقي السجين السابق رهين السجن النفسيّ اللاحق، بحيث لا تتعدّى حرّيّته المَعيشة عربة يتشاركها مع آخرين، تماماً كما كان يتشارك عذاباته وآماله في ظلام السجن مع آخرين. رحابة العالم الخارجيّ لا تسعف السجين في التمرّغ بها والاستزادة من الحرّيّة التي يعيشها، بل تراه يعاود الرجوع إلى سجنه، يتّخذه مرتكزاً يسعى إلى الاستشفاء منه، لأنّه يبقى وشماً في الذاكرة عصيّاً على المحو والاستبدال. بدوره كتب كارلوس ليسكانو عن سجنه السياسيّ في بلده الأورغواي إبّان الحكم الديكتاتوريّ في السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم، فجاءت روايته «عربة المجانين»، (المركز الثقافي العربي، ترجمة حسين عمر)، وثيقة حيّة عن تمويتٍ مُمنهج مُورس عليه وعلى أمثاله في مرحلة العنف والعنف المضادّ التي اجتاحت بلده، حيث كان الصراع على السلطة على أشدّه بين الثوّار والنظام، صراع شرس قسّم الناس فرقاً وجماعات متناحرة، سلب الرحمة من قلوبهم، زرع في نفوسهم قيم الثأر والانتقام والقتل. دخل الروائيّ السجن شابّاً قويّاً، خرج منه رجلاً مهدوداً، قضى فيه شبابه ورجولته، أمضى أكثر من عقد ونصف العقد في عتمة السجن، اكتشف فيه أشياء كثيرة، تعرّف إلى أناس كثر، فقد أمّه وأباه، وحين خرج، فُجِع باكتشافه أنّ هناك معاناة كبيرة ومرارة مضاعفة في العالم الخارجيّ. فُجِع بالحرّيّة الممنوحة فجيعته بالحرّيّة المسلوبة. يروي كارلوس ليسكانو سيرة سجنه - حياته منذ بداية اعتقاله في مونتفيديو وحتّى وقت كتابته روايته، وقد ابتعد فيها عن الكتابة بطريقة موتورة تحامليّة، بل كتب بشفافيّة عن قساوة السجن، أراد أن يسلّط الضوء على عالم السجن المُوحِش، وأن يتوغّل في دواخل السجّانين والمسجونين سواء بسواء، ليسبرها ويفردها للقارئ ولنفسه، يخصّص فصولاً من روايته، التي قسّمها إلى ثلاثة أقسام غير متساوية الفصول، للحديث عن الآخرين الذين شاءت الأقدار والمصادفات أن يلتقي بهم أو يعيش معهم. يقول إنّه في بعض الأمسيات كان يروي حكايات مفرحة عن السجناء ولكنّه ظلّ يرفض الكتابة عن السجن، شعر أنّه غير قادر على أن يروي كتابة شيئاً سوى سلسلة لا متناهية من التنكيد المجرّد من المحتوى الأدبيّ، لكنّه يستجيب لنداءٍ داخليّ بالكتابة والبوح، ليملي عليه ما يكتبه، سينتزع من النسيان وقائع ومشاعر وأحاسيس لم يكن يتذكّرها. سيكون تائهاً في ممارسة الحرّيّة، تماماً كما كان يوم خروجه في مواجهة ممارسة حرّيّته، حين كان في عربة المجانين. سيظلّ يبحث عنها ويمارسها في ذاته. وسيعتقد أنّه يجدها كلّ مرّة ليشعر بأنّه قد فقدها. فتكون دورات متتالية من الفقد المبرح. تكون الكتابة فعل حياة، فعل وجود، فعل حرّيّة مطلقة. تكون فكرة الكتابة فكرة ممارسة الحرّيّة التي تظلّ بعيدة عن التعريف لديه. في ظلّ انعدام القيمة، ومع التقزيم الذي يمارسه السجّان بحقّ السجين، يروي ليسكانو كيف أنّه كان يتحدّى سجّانه ويتحايل عليه، وكيف أنّه كان يقاوم للبقاء والاستمرار، إذ كان يختلق ما يلهي به نفسه، حيث إضاعة الوقت أو استثماره شغف السجناء، وفي كلّ سجن مرّ عليه، كانت له قصص ومآسٍ، إذ كان يسعى إلى إضفاء قيمة ومعنى على حياته المفرّغة، فكان أن غدا معلّماً لسجين آخر؛ غونزاليس، تصادف وجوده معه في الزنزانة نفسها في سجن ليبرتارد الإصلاحيّ، فعلّمه القراءة والكتابة، وضع برنامجاً دراسيّاً، شعر وهو يعلّمه بأنّ لبقائه على قيد الحياة قيمة وسبباً. يسعد وهو يرى تلميذه يتطوّر ويتفوّق في تعلّمه، لأنّه لابدّ من القيام بشيء إيجابيّ يهب الحياة، كي لا يتحجّر المرء ويستسلم لمشيئة الجلاّدين، يشعر وصديقه أنّهما كسبا شيئاً ما على حساب السجن والعزلة والتوحّش التي أريد فرضها عليهما، يشعران بانتصارهما لبعض الوقت. يحاول ليسكانو الانغماس في الدروس والتجلّد كي يتناسى العالم الخارجيّ، لكنّه كان محكوماً بالأسى يجتاحه مع كلّ خبر يأتيه منه. تموت أمّه، ثمّ ينتحر أبوه الذي لا يتمكّن من الصمود بعد موت زوجته. تجتمع مشاعر التيتّم مع مشاعر الاستلاب والسجن والعزلة، تؤلمه في الصميم أكثر من التعذيب الجسديّ والنفسيّ الذي لم يتوقّف طيلة مدّة سجنه. تجتاحه في السجن ذكرياته وأحلامه في الخارج، وفي الخارج تجتاحه ذكريات السجن وآلامه، تتناهبه الذكريات في كلّ حال، لكنّه لا يقع صريعها، بل يتغلّب عليها بالكتابة التي تكون وسيلته الفضلى لتبديد الارتهان والسجن والظلم والجنون. كانت الحرّيّة بالنسبة إليه طوال سنوات السجن سهلاً مترامي الأطراف، لكنّه حين غدا حرّاً وجدها عربة تتقدّم في عتمة الليل عبر المدينة، وجدها تحدّياً، ينجح في استشفاف الناس لكنّ التفاصيل تختلط عليه، يتوه فيها، تشلّه الدروب المفتوحة أمامه، لأنّه اعتاد حياة السجن، حيث كان العيش يعني مقاومة ليوم إضافيّ، أمّا بالنسبة للحرّ فإنّه كان يبحث عن معنى وطريقة للعيش. يكتشف أنّ الحرّيّة تجريد، شيء غير مَعيش، يسعى إلى التأقلم معها وعيشها. يتحدّث ليسكانو عن معارفه المكتسبة واكتشافاته حول جسده وأجساد الآخرين، حول ذاته وذواتهم، يعيد تعريف الكثير من الأمور بحسب منظوره الخاصّ وتجربته الفريدة، يشرح الألفة التي تنشأ بين السجين وسجّانه بمرور الزمن، وكيف أنّ المسؤول يغدو شبه أبٍ خبير يملك مصير السجين، يحتكر حياته ويملك زمام أمره، كما يحكي عن السجن الذي يعانيه السجّانون، ويصفهم بأنّهم المساجين الحقيقيّون، في حين أنّهم يظنّون أنّهم أحرار، يتصوّر مجريات حياتهم البائسة الجوفاء، ولا يصعب عليه تخيّلهم آباء وأبناء وأزواجاً وإخوة تعساء.. ثمّ يروي حالات متعدّدة عاشها في سجونه التي تنقّل في ما بينها، حيث كان لكلّ سجن خصوصيّته ووسائله في التعذيب وانتزاع المعلومات، والسجناء في كلّ السجون حقول التجارب بالنسبة للأدوات الجديدة والمبتكرة. يشعر القارئ العربيّ أنّه يكتشف في ليسكانو الراوي المُفصح عن أحواله في السجون الكبيرة التي تتكاثر هنا وهناك، تحضر صور السجن وتتداعى ذكريات السجناء، تستحضر وسائل التعذيب كصور مألوفة حاضرة في الأذهان لا تختلف عن تلك التي تعكّر الواقع، وتفضح جريمة السجن المستمرّة بالنسبة إليه، لأنّه يقدّم تلك الفترة كمرحلة رئيسة مكوّنة لحياته، لا كوقت ضائع ينبغي تجنّب الخوض فيه. يؤكّد ليسكانو في روايته التي كتبها بعد سنين من خروجه، أنّه بمقدار ما يكون نشدان الحرّيّة حلماً بعيداً يراود السجناء، فإنّ عيش الحرّيّة والتمتّع بها، يكاد يكون أشدّ قسوة على الكثيرين منهم بعد التحصّل عليها، ذلك لأنّ السجن يقيّدهم بعوالمه، فيُفجع بعض المساجين حين يكتشف أنّه كان يعيش الحرّيّة في سجنه، ويعاني مرارة السجن في خارجه، لأنّ من شأن تقلّب الموازين، وتغيّر الظروف أن تبقيه غريباً عن واقعه، متآلفاً مع سجنٍ استلب منه حياته وحرّيّته ومستقبله، مغترباً عن حلمه المنشود الذي كان ينير حلكة سجنه، ويمنح معنى لبقائه، ويجمّل له الانتظار، يتخلّل السجنُ المهروبُ منه أيّامه ولياليه، يعشّش فيه، ما يؤدّي به أن يشعر بعبء حرّيّته بعيداً عن جبروت السجن القاهر.