تصوّر أننا صرنا بصدد حقيقة «ارفع رأسك» هذه المرة، لكن ليس رأساً من باب الفخر بل من باب الواقع، فرؤوسنا كلها صارت مطأطأةً ذليلةً خانعةً، لكن أمام شاشة جهاز يتحكم فيك، ويسيطر عليك، كما يسيطر عقار كيماوي يمنحك في البداية متعة، لكنه مع الوقت، يوقعك في سيكولوجية الإدمان والتعود، وتصبح عاجزاً عن الفكاك منه أو العيش من دونه، ولو أن كاميرا تصوّر لقطةً علويةً لجموع الطلبة والطالبات، والشبان والشابات، والسادة والسيدات في الأسواق والمقاهي والبيوت، لوجدت رؤوساً تدفن نفسها في أجهزة صغيرة بيدها، أو تمسك الجهاز بيديها وتدق أزراره متباهية بأنها صارت تسرع أكثر من الآخرين، صار مشاهداً عادياً أن ترى فتاة تمشي وعينيها على الشاشة، تتحسس قدمها الطريق أو تدبُّ كما يدبُّ الأعمى على مقدمة سلم كهربائي، لا ترى ولا تدرك من يمرّ بقربها. جلستُ ذات مرة في مقهى، والشمس تكاد تغربُ، فجلستْ بجانبي سيدةٌ، وضع النادل قهوتها، بردت، وغابت الشمس، ومرّ النسيم، وهي لا تزال تدق على جهازها، وتخاطب آخر بعيداً، إنها غيبوبة جديدة، واحدة من الغيبوبات التي يسهل علينا الانزلاق فيها، فأسهل ما على الإنسان هو الانزلاق الذي لا يكلف شيئاً، بينما المقاومة تكلف الكثير، ولدينا مثلٌ يقول: «الموت مع الجماعة رحمة»، وبدلاً من أن تكون منعزلاً ووحيداً وشاذاً، فالأهون أن تكون اهتماماتك مثل كل الناس، وأن تتعاطى ما يتعاطون، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فلذة هذا التعاطي هو اتساع وطول قائمة الناس الذين أصبحت تتواصل معهم من كل مكان، ففيما كانت العلاقات سابقاً قائمة على التواصل باللقاء الحي والحديث المباشر والزيارات، فإن الوقت لم يكن يتسع إلا للقليل، اليوم يمكن أن نضع عشرة أشخاص في حزمة واحدة، لم نرهم منذ سنوات، ولم نعرفهم إلا أياماً وساعات، ونتبادل معهم الرسائل المجانية التي تزودنا بآخر النكات، وآخر الأخبار، وأحدث وصفات الأطعمة، والتحذيرات، وآخر ما شاع من زواج الفنانات، أو فضيحة نجم مشهور. تزور والديك يوماً في الأسبوع، لكن عينيك لا تفارقان الشاشة، تجلس مع طفلك الذي لا يفهم لِمَ أنت حاضر معه بجسدك، لكن عينك تتابع جهازاً صغيراً، وتخاطب الآخرين بودٍّ وحنانٍ ورعايةٍ واهتمامٍ، لكن أول من يُحرم من هذا الاهتمام هو طفلك، اليوم أصبح شاقاً أن تجد والداً وقد تخلص من إلحاح طفله أو رغبة في إشغاله عنه بمنحه جهاز آي باد صغيراً، فترى طفلاً دون الثانية، يقلب بإصبعه الصغيرة شاشته، ويضحك، أو ينسحب عن العالم، ليغرق في عالم الشاشات الصغيرة. هل هذا وباءٌ جديدٌ؟ «ارفع رأسك»، حملة أطلقتها قناة «أم بي سي»، لأننا صرنا نحتاج إلى أن يدق أحد الجرس فوق رؤوس الغائبين في الأجهزة، «ارفع رأسك»، كي لا تُصاب بتصلب في الفقرات والروح والعلاقات، لا تستبدلوا الحديث الحي بالحرف المكتوب والمكذوب، «ارفع رأسك»، كي لا نتحول إلى قطيع يدبُّ على قدمين مربوطتين بخطام مثل الأنعام، تجرنا شاشة صغيرة، لا تقول سوى «كيف الحال»؟ [email protected]