لفت نظري طفلان لم يتجاوزا العاشرة، يجلسان متقاربين في المكان، ولكن عينيّ كل منهما متسمرتان على هاتفه الذكي، وأصابعهما تضغطان الأزرار في سرعة عجيبة، استمر المنظر على هذه الحال لفترة طويلة، لم يتبادل فيها الطفلان الكلام، أو يشاركا أقرانهما اللعب في الحديقة التي كنت فيها مع طفلي، كان كل منهما غارقاً في شاشة صندوق العجائب المسمى «بلاكبيري»، أصبح منظر الأطفال وهم يقضون الساعات الطوال على هواتفهم الذكية وأجهزة الكومبيوتر اللوحية ك«آي باد» معتاداً جداً، حتى أن جيلهم سبق (وللمرة الأولى في تاريخ البشرية) الجيل الذي قبله في المعرفة والتعامل مع التقنيات الحديثة، ما صنع تلك الفجوة التي لا تزداد إلا اتساعاً مع كل هاتف ذكي جديد ينزل الأسواق. لكن الكبار أيضاً ليسوا بأحسن حالاً، هل شاهدت أصحاب الأجهزة الذكية في اجتماعاتكم العائلية مطأطئي الرؤوس، محملقين في شاشاتهم وكأنهم يديرون صفقات بالملايين؟ هل خرجت مرة مع أصدقائك ورجعت وأنت تشعر أنكم لم تتبادلوا الأحاديث كالسابق، فكل مشغول بسيل «الرنات» التي لا تتوقف؟ أتفهم أن يعيش المرء وحيداً بسبب الظروف، لكن لا أستطيع أن استوعب أن تعيش وحيداً وكل هؤلاء الناس حولك! أذكر أن صديقتي كانت ستُدهس مرة ونحن في شوارع نيويورك بسبب انشغالها في هاتفها الذكي، لولا أن سحبتها بقوة للرصيف، وأنا أطلب منها أن تضع جهازها في حقيبتها، فما كان منها إلا أن أكملت ما كانت تفعل بلا مبالاة، ما جعلني أقودها كما يُقاد الأعمى لسلامتها بعد أن نجت من حادثة محققة! أظهرت إحصائية، نشرها موقع «فكر مع غوغل»، أن الإمارات والسعودية تأتيان على رأس قائمة: «أكثر شعوب العالم استخداماً للهواتف الذكية»، بواقع 62 في المئة للإمارات، و60 في المئة للسعودية، وبفارق عن الدول التي تليهما في القائمة «النرويج 54 في المئة، استراليا 52 في المئة، والمملكة المتحدة 51 في المئة»، كما نشر موقع «العربية نت»، في 5 كانون الأول (ديسمبر) 2012، أن عدد مشاهدات موقع «يوتيوب» في السعودية بلغ 190 مليون مشاهدة يومياً من أصل 240 مليون مشاهدة في الشرق الأوسط، أكثر من نصفها يحدث من أجهزة الهواتف الذكية، أي أن عدد المشاهدات اليومية في السعودية يفوق عدد سكانها بسبع مرات، ما يجعل السعودية تأتي في المركز الأول عالمياً في عدد مشاهدات «يوتيوب» «بحسب خبر آخر نشره الموقع نفسه في أيار (مايو) السابق»، أي أننا سبقنا شعوب العالم في تبني التقنيات الجديدة، فماذا تغير؟ تُظهر الدراسات أن إدمان الهواتف الذكية التي نستخدمها للدخول إلى «الانترنت» ومواقع التواصل الاجتماعي، يجعل الأشخاص أكثر وحدة وحتى نرجسية، ويعزز الشعور بالإحباط والكآبة والتوتر، من السخرية حقاً أن الأجهزة التي نستخدمها للتواصل الإلكتروني غدت سبباً في العزلة الاجتماعية، إذ قلت الزيارات والأحاديث وجهاً لوجه مع الآخرين، واستبدلت بها علاقات صامتة مع أجهزة صماء، نعيش نحن وهي لوحدنا في العالم الافتراضي الذي صنعته لنا. أذكر حين خرج الفيلم الأميركي «ماتريكس»، الذي يصور المستقبل، وقد سيطرت الحواسيب الآلية عليه، وفقد البشر سيطرتهم على حياتهم، وغدوا بطاريات تغذي الحواسيب بالطاقة، كانت الفكرة مرعبة في حينها أن تتفوق الآلة على صانعها، وتتحكم في حياته... نظرة بسيطة تتأمل الواقع اليوم تجعلنا نكتشف أن التقنيات الجديدة بدأت بالفعل بالسيطرة على حياتنا، لكنها هذه المرة برضانا الكامل وسابق معرفتنا، ولأؤكد لكم هذه الفرضية، إذا كنت من مدمني استخدام الهواتف الذكية حاول أن تأخذ إجازة يوماً واحداً وبكامل رضاك، وأنت في طريقك للخارج أطفئ هاتفك الذكي وأتركه في المنزل، لا تدخل على «الإنترنت»، ولا تفتح بريدك الإلكتروني، ولا مواقع التواصل الاجتماعية من أي جهاز آخر، هل تخيلت وضعك؟... مقلق حقاً! [email protected] @manal_alsharif