يحفظ البحر صوته الجميل والمتعدد الطبقات، وتألف الأمواج الزرقاء والزبد الأبيض، ولحن أغنيته التي يكاد يحفظها مصطافو الإسكندرية كباراً وصغاراً حينما ينادي «فريسكا... فريسكا»، فتتسمر العيون على صندوقه الزجاجي الصغير المليء بأنواع وأصناف مختلفة من البسكويت. واليوم وبعد مرور أكثر من سنتين على «ثورة 25 يناير»، اختلفت الرؤية، فالمصطافون قل عددهم إما بسبب دعوات المليونيات والتظاهرات التي لا تكاد تنتهي، وإما بسبب حال الانفلات الأمني المستحدثة التي جعلت المصطافين من مرتادي المدينة الساحلية ذات الشاطئ الساحر والطقس الرائع، يقبعون في منازلهم أمام شاشات التلفاز لمتابعة الأحداث السياسية الدائمة التأجج أو في الشوارع للمطالبة بحقوق لم يحصلوا عليها بعد، ما جعل صاحب الصندوق يعيد النظر في ما يقدمه لزبائنه بعدما اتسعت مداركه وأدرك حقه في العزة والكرامة والحرية، فأصبح يقدم لزبائنه البسكويت الدائرية الرقيقة المقرمشة بنكهة الحرية ورائحة العدالة وطعم الكرامة وتحولت أغنيته من «فريسكا المقرمش إلى فريسكا الثورة». وأضحى صاحب الصندوق ككثيرين ممن ضاقوا بالنهضة وزمانها وطائرها وسدها فأصبح ينادي فريسكا الثورة... فريسكا الحرية حاملاً بإحدى يديه صندوق الفريسكا الممتلئ بالبسكويت اللذيذ، وفي يده الأخرى استمارات «تمرد» يوزعها على زبائنه طوال النهار ويحملها في الغروب ممهورة بتوقيعات زبائنه من السكندريين والمصطافين، لأحد النشطاء الداعين إلى التظاهرات. ورث رضوان ناجي مهنة الفريسكا عن جده ويعمل بها هو ووالده وأعمامه الثلاثة الذين وفدوا من الصعيد جنوب مصر في عشرينات القرن الماضي. يقول: «فريسكا هي تحوير سكندري لكلمة فريش Fresh وتعني الطازج وأخبرني جدي أن الفريسكا كان يبيعها الطليان والجريج (الإيطاليون واليونانيون) في عهد الملك فاروق وكان أصدقاء جدى هم أصحاب معامل الفريسكا أو «رقائق البسكويت» التي طورت اليوم لما يعرف بالويفر». ويؤكد رضوان بفخر أن جده كان يبيع الفريسكا لأميرات الأسرة العلوية في منطقة سيدي بشر في الثلاثينات من القرن الماضي كما أن جده هو من أشار على سينيوريتا فرانشيسكا زوجة الخواجة ريكاردو صاحب معمل بسكويت في منطقة باكوس أن تضع ماء الورد والشوكولاتة في عجيبنة البسكويت الرقائقية فلاقت إعجاب العائلة الملكية في ذلك الوقت وكافأوه بجنيه ذهب. وعن الفريسكا يقول: «هي عبارة عن دقيق وخميرة وعسل تضاف إليها النكهات أو المكسرات ويتم تقطيعها إما إلى دوائر كبيرة رقيقة أو إلى دوائر صغيرة ترص فوق بعضها وبينها المكسرات أو الشوكولاتة». ويرى أن الحال بعد الثورة اختلفت كثيراً فعدد المصطافين قل إما بسبب الحال الاقتصادية السيئة وإما الحال الأمنية المتردية التي لا تشجع أحداً على السفر. يضع رضوان استمارات «تمرد» فوق صندوقه، ويقول: «بعدما فقدنا الأمل في الثورة قررت أنا وكثير من زملائي أن نشارك في التمرد، علّ الحلم في مستقبل أفضل يتحقق». تخرج رضوان ناجي في كلية الآداب منذ 7 أعوام، ولم يجد إلا وظيفة بائع الفريسكا، ويقول: «هناك مشكلات كثيرة تنخرعظام المجتمع من قهر وذل وفساد، وأعطتنا الثورة بارقة أمل ما لبثت أن خفتت سريعاً بسبب الممارسات الخاطئة للنخب والمعارضة والطبقة الحاكمة». ويعتقد ناجي أنه سيترك مهنة بائع الفريسكا ليعمل في مهنة تتناسب مع دراسته، إلا أنه سرعان ما فقد الأمل بعدما طار طائر النهضة مخلفاً مزيداً من المعاناة واليأس، وعاد يحمل صندوقه الخشبي الثقيل حافي القدمين، يتمشى على الشاطئ ذهاباً وأياباً تلهبه أشعة شمس الصيف الحارقة طوال النهار.