المتابع لسير العلاقات السعودية - التركية بما لدى البلدين من ثقل سياسي واقتصادي واجتماعي على المستويين الإقليمي والعالمي، يكتشف أن كلاً من أنقرةوالرياض أدركتا في وقت مبكر أن الواقع الذي تعيشه المنطقة التي ينتمي لها البلدان يتطلب تعاوناً استراتيجياً على أعلى المستويات، فالاضطرابات العرقية والطائفية والتشتت السياسي الذي تعيشه منطقة الشرق الأوسط يتطلبان من الدولتين الأكثر استقراراً (السعودية وتركيا) أن تعملا سوياً على فرملة التدهور الذي يعصف بالمنطقة منذ أن أصبحت جمهورية العراق حديقة خلفية لجمهورية إيران الإسلامية. السعودية وتركيا وكلاهما عضو في منطقة التجارة العالمية ومجموعة ال20 يدركان أن خيارهما الإسلامي يجب أن يكون وسطياً، وأن عليهما أن يعملا من خلال أهمية دورهما السياسي المؤثر في إدارة التوازنات الإقليمية، إضافة إلى مخزونهما الكبير من العلاقات المميزة على المستويين الإقليمي والعالمي، ولهذا وضع البلدان الحفاظ على الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط أولوية لكلا البلدين. ويرى الباحث في العلاقات السعودية - التركية الدكتور عبدالله الشمري أن العلاقات بين البلدين اكتسبت في العقد الأخير زخماً كبيراً نتج منه مستوى ممتاز من التوافق والتناغم في سياستهما الخارجية، وعزز ذلك - بحسب الشمري - وجود ثقة متبادلة بين قيادتي الدولتين مما تمخض عنها تزايد التعاون والتنسيق في عدد من قضايا الإقليم، ليس هذا فحسب، بل في قضايا خارج الإقليم. لكن الشمري عاد وطرح من خلال ورقة عمل قدمها لمنتدى العلاقات السعودية - التركية الأول 2011 عدداً من الأسئلة التي تتداولها النخب السعودية تجاه السياسة الخارجية التركية، وهي أسئلة وإن كانت قاسية إلا أنها تنم عن رغبة هذه النخب في تنامي العلاقات بين البلدين، وجاء في مقدم هذه الأسئلة: هل ستستمر السياسة الخارجية التركية تجاه الجيران والعرب بالتوجه والودية ذاتهما لو حدثت مفاجأة سيئة لحزب العدالة والتنمية يوماً ما؟ يأتي بعده سؤال مهم: هل يعني اختيار الرئيس أوباما تركيا لتوجيه رسالة للعالم الإسلامي أن النموذج التركي للإسلام هو المفضل غربياً؟ أما السؤال الأكثر تداولاً، خصوصاً بعد رفض رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الجلوس إلى جانب رئيس إسرائيل في منتدى دافوس بسويسرا، إضافة إلى إرسال سفن لكسر الحصار على غزة عام 2010، هو: هل الموقف (التركي) من القضية الفلسطينية هو عبارة عن محاولة لكسب الرأي العام العربي والإسلامي؟ وعلى رغم مشروعية مثل هذه الأسئلة لدى النخب السعودية، وأسئلة مشابهة وإن في اتجاه آخر لدى النخب التركية، إلا أن البلدين استندا إلى عمقهما الإسلامي ورؤيتهما المشتركة تجاه الإصلاح والوسطية، فمضيا في ترتيب أولوياتهما في المحافل الإقليمية والدولية على أساس من الثقة. لم يرَ الدكتور عبدالله الشمري أن التباين الذي بنيت عليه الدولتان (المملكة قامت على أساس أن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع الأول، فيما قامت تركيا على أساس علماني)، أضرَّ بالعلاقة بين البلدين، فهو رأى أن البلدين تبادلا الشكوك مدة أربعة عقود مرت فيها العلاقات بنوع من البرود، إلا أن كلا الطرفين لم يقطع شعرة معاوية، وهو رأى أن ذلك البرود لم يمنع المصالح السياسية الثنائية وطبيعة العلاقات الدولية آنذاك، إذ كانت المصالح الثنائية للبُلدان تتفوق على البعد أو العامل الآيديولوجي. ولفت الباحث إلى أنه وعلى رغم التذبذب في العلاقات بين الرياضوأنقرة فقد حافظ البلدان على مستويات جيدة من التناغم في السياسة الخارجية، خصوصاً في الأزمة القبرصية والثورة الإسلامية في إيران ورفض الاحتلال السوفياتي لأفغانستان، وهما اقتربا أكثر عندما احتل العراق الكويت وقام تحالف دولي من أكثر من 30 دولة لإخراج الجيش العراقي من الكويت بقوة السلاح، لما شكّله ذلك الاحتلال من خطر على أمن البلدين. في عام 2002 وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة بعد انتخابات حرة ضمن خلالها غالبية في البرلمان، بعدها ظهرت في تركيا نخب سياسية على قدر كبير من الوعي والفهم لمنطقة الشرق الأوسط، واستدارت هذه النخب باتجاه بعدها الجغرافي والديني والثقافي في العالم العربي بعيداً عن أي تشدد قومي، وفي هذا النقطة يرى الباحث الشمري أن تحرك تركيا باتجاه العرب كان خياراً استراتيجياً لا تكتيكياً، وأن البلدين أدركا بعد احتلال أميركا لأفغانستان والعراق وتنامي النفوذ الإيراني في العراق أن تقاربهما ضرورة لوقت التحديات والتهديدات التي تواجه البلدين. في مثل هذه الأجواء التي تسيطر عليها المذهبية وتفوح منها رائحة البارود والبارود المذهبي المضاد، وصل خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز في آب (أغسطس) 2005 إلى سدة الحكم، وبعد مضي سنة على مبايعته ملكاً للبلاد قام بزيارة رسمية إلى تركيا، وهي الزيارة التي أحدثت نقلة نوعية واستراتيجية في تاريخ العلاقات بين الرياضوأنقرة، إذ أثبتت نتائج تلك الزيارة أهمية وضرورة تكوين شراكة اقتصادية وتحالف استثماري مبني على رؤى ومصالح مشتركة. إضافة إلى توقيع البلدين أثناء تلك الزيارة على مذكرة تفاهم سياسية، ثم التوقيع على خمسة اتفاقات ثنائية تعبّر عن المرحلة الجديدة في العلاقات بين البلدين، وكان من بين تلك الاتفاقات: اتفاقات في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة، إضافة إلى اتفاقات في المجال العسكري. واليوم تأتي زيارة ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع الأمير سلمان بن عبدالعزيز لإكمال البناء الذي تأسس منذ عقود عدة على أساس من الثقة والمصالح المشتركة، خصوصاً أن كلا البلدين يرغب في المزيد من النمو في هذه العلاقات، إذ ارتفع حجم التجارة بين البلدين من 3.3 بليون دولار عام 2006 إلى 5.5 بليون دولار في عام 2008 وهما (الرياضوأنقرة) يطمحان إلى زيادة التبادل التجاري إلى 10 بلايين دولار. من المؤكد أن زيارة ولي العهد لن تقتصر على البعد الاقتصادي، إذ مما لا شك فيه أن الجانبين سيبحثان في ظل التوافق السياسي بينهما على تحقيق مصالحهما المشتركة لقيادة العالم الإسلامي وتجنيبه ويلات الحروب والانقسامات، والعمل على بناء علاقات استراتيجية تخدم نهج البلدين في سياستهما الخارجية وتسهم في بناء علاقات دولية ناجحة وذات صدقية.