في خضم الأزمة التركية الإسرائيلية وتزامناً مع إعلان حكومة رجب طيب أردوغان طرد السفير الإسرائيلي جابي ليفي مررت أنقرة قرارا باستضافة جزء من منظومة الدرع الصاروخية بتنصيب رادارات على الأراضي التركية . المشروع الذي دائماً ما كان مثار جدلٍ واسع بين القطبين الولاياتالمتحدةوروسيا ، فالأخيرة ترى أن هذا المشروع يستهدفها بشكل مباشر بينما المعلن انه يشيد من اجل صد أي عدوان محتمل من إيران التي تطور أسلحة بالستية خشية أن تزود برؤوس نووية. وبالرغم أن قائد الدفة الدبلوماسية التركية احمد داوود اوغلو كان من المعارضين لهذا المشروع على أساس تعارضه مع نظريته السياسية " تصفير المشاكل " مع دول الجوار إلا ان ما أفرزته أحداث المنطقة من حادث سفينة "مرمرة" إلى انتفاضة الشعوب العربية خلط الأوراق وجعل السياسة التركية تعيد النظر في هذه الإستراتيجية. في هذا الإطار ناقشت " الرياض " هذه الخطوة وأبعادها التي يبدو أنها ستغير كثيراً من موقع تركيا في الخريطة السياسية في كل من الشرق الأوسط وأوروبا على اعتبار أنها تبرهن انحيازها لحلف شمال الأطلسي (الناتو) والذي يعتبر الجيش التركي فيه ثاني اكبر الجيوش عدداً في المنظومة الأطلسية. كما سنتحدث مع خبراء العلاقات الأوروبية التركية عن ايجابيات وسلبيات هذا القرار على أنقرة ومدى تأثير ذلك على جيرانها ومصالحها في المنطقة الشرق أوسطية. " الرياض" سألت الدكتور بولنت رضا مدير البرنامج التركي في مركز الدراسات الإستراتجية والدولية في واشنطن عن تأثيرات هذه الخطوة على امن وسياسة تركيا . فبادر قائلاً المشروع سيجعل العلاقات مع روسيا أكثر تعقيداً لأن الروس يعارضون هذا المشروع منذ البداية لأنهم يعتقدون بأن الناتو يستهدفهم ببناء هذه المنظومة. وهذا المشروع كذلك سيصعب العلاقات مع إيران. وبالطبع تركيا لديها تعقيداتها الخاصة الفريدة بسبب المشروع. هذا ما أردت إيضاحه بالنسبة لإيرانوروسيا. أما بالنسبة لسورية لا تنظر ولا تعتبر المشروع مصدر تهديد لها ولا ترى بأن تنفيذ المشروع يهدد أمنها. السفير ستيفن بيفير مدير مشروع الحد لكن السفير الأميركي السابق ستيفن بيفير مدير مبادرة الحد من التسلح في معهد بروكينجز يرى في حديثه ل" الرياض" أن نشر شبكة الدفاع الصاروخي في تركيا لا تشكل تهديداً لدول الجوار، وأن الدول التي أبدت قلقاً من هذا المشروع هي الدول التي تملك صواريخ موجهة لتركيا ودول الحلف. وأضاف اعتقد أنه لا يؤثر نشر منظومة الدفاع الصاروخي في تركيا على دورها في الشرق الأوسط . يتفق مع ذلك جزئياً الباحث المتخصص في العلاقات الأوروبية التركية بايتور زيلوسكي الذي يرى ان أنقرة تقوم بالأفضل لحماية نفسها من أي اعتداء محتمل عن طريق الدرع الصاروخية الذي ليس موجهاً لأي دولة محددة بالرغم من أن الناتو يرى إيران تهديداً حقيقياً. د.بولنت: المشروع سيجعل العلاقات مع موسكو أكثر تعقيداً ومع طهران أكثر صعوبة الدكتور ميشال تسيتوني زميل مركز الدراسات الدولية في جامعة جون هوبكنز يشير إلى وجوب النظر إلى الامر من جانب آخر ، حيث ينبغي - على حد قوله – تحليل الفاعلية التركية الجديدة من خلال الجوانب التالية: المزية الخاصة لنظرة اردوغان التي يراها من خلال "مجتمع تركي قادر على تقبل ومزج المؤسسات الليبرالية الديمقراطية بالقيم الإسلامية". ثانياً : إعادة النظر في العلاقات المضطربة بين تركيا والاتحاد الأوروبي، وكافة الصعوبات في العملية التفاوضية، وأخيراً "نافذة فرص" جديدة لتركيا في المشهد الشرق الأوسطي والشمال إفريقي والتي انفتحت عقب الخطاب الذي ألقاه الرئيس الأميركي أوباما في القاهرة في يونيو 2009 حول " بداية جديدة " بين أميركا والعالم العربي والإسلامي. هذه الجوانب الثلاثة يتم الاستناد لها على أساس منهج تركي سياسي يسميه المراقبون "العثمانية الجديدة". زيلوسكي: أنقرة في مرحلة إعادة تنظيم وتعديل سياستها الخارجية ويضيف الدكتور تيستوني وافقت تركيا على وجود قواعد لأميركا وحلف الناتو وجمدت علاقاتها مع إسرائيل وسوريا على حد سواء لكي تلعب دور عامل الاستقرار الموثوق ذي المصداقية. ومن المؤكد أن دور تركيا ازداد، ذلك أن أنقرة تظل الحليف الجيد والفاعل للولايات المتحدة، الأمر الذي يهيئ لها صدقية قوية، كما أنها وفي نفس الوقت فإن تركيا قد غيرت تماما من موقفها تجاه قطبي عدم الاستقرار في المنطقة (تل ابيب، وطهران)، الأمر الذي يعزز من نفوذها، ومن خلال ذلك تقدم تركيا نفسها على أنها "بطل" الدول العربية الإسلامية السنية وسكانها ضد إسرائيل ، وسوريا وإيران الخاضعتين للهيمنة الشيعية . وهذه نقطة جوهرية. الدكتور ميشيل تيستوني زميل مركز الدراسات المتقدمة في جامعة جون هوبكنز لكن ماذا عن تناقض هذه الاتفاقية مع الهدف أو النظرية السياسية التي أطلقها منظر السياسة الخارجية التركية الدكتور أحمد أوغلو التي تتمحور حول تصفير المشاكل مع دول الجوار وهي ما أسفرت عنه فعلاً مع دول روسياوإيران سوريا التي شهدت علاقتهما انفراجاً كبيراً غير متوقع. يجيب ل" الرياض" عن هذ السؤال الدكتور بولنت رضا بشيء من الإسهاب قائلاً تمكنت تركيا من إقامة علاقات اقتصادية وثيقة مع روسياوإيران. وما كانت هذه العلاقة الاقتصادية القائمة الآن مع روسيا متصورة خلال فترة الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي لأن الأخير كان يقود تحالفاً وتركيا كانت في تحالف آخر. العلاقة بين تركيا والغرب كانت علاقة عسكرية موجهة ضد روسيا. لكن الوضع تغير الآن فقد أصبحت روسيا الآن شريكا تجاريا هاما خاصة في مجال الطاقة. ويضيف أما بالنسبة لإيران فقد حافظت تركيا على علاقاتها التجارية مع طهران بالرغم من أن التحالف الذي تقوده الولاياتالمتحدة كان قد قطع علاقاته التجارية مع إيران. وبالإضافة إلى العلاقات التجارية الجيدة مع إيرانوروسيا، سعت تركيا إلى الحفاظ على علاقات سياسية جيدة مع كلا البلدين. أما الآن وقد اشتكت روسياوإيران من منظومة الدفاع الصاروخي في تركيا فيمكن القول ان هذا المشروع قد تسبب في مشاكل لتركيا مع جارتيها. السؤال: هل يمكن لسياسة "تصفير المشكلات" أن تحقق أهدافها وهل من الممكن تطبيقها عملياً عندما يتعلق الأمر بالعلاقات؟ الجواب هو أن تركيا الآن لديها مصاعب في علاقتها بسورية بالرغم من أن العلاقة بينهما كانت وثيقة. أما بالنسبة لإيران فهناك خلافات ومشاكل، وكذلك الحال مع روسيا التي ترى تدخلاً تركياً في شئون القوقاز وجورجيا. تركيا حاولت شرح الوضع لجيرانها وقالت ان قبولها بنشر شبكة الرادار على أراضيها هو جزء من التزاماتها تجاه حلف الأطلسي ولكن ليس على حساب علاقاتها مع جيرانها خاصة مع الدول العربية في الشرق الأوسط. بينما يرى الدكتور تيستوني زميل جامعة هوبكنز أن هذه الخطوات تتعارض مع سياسة "تصفير المشاكل" مع دول الجوار ، وأضاف لطالما أن تركيا ترغب في لعب دور أكثر فعالية فإن على أنقرة أن تتحمل بعض تبعات هذه الخطوات.، ومع ذلك بالنسبة للوقت الحالي، فإن التوازن الدبلوماسي مازال يميل لصالح زعامة اردوغان وسياساته فإسرائيل تعيش في عزلة وسوريا تعاني من مشكلات داخلية جسام. وفي هذا الوضع يمكن النظر إلى تركيا على أنها "محور جيوستراتيجي" في منطقة جنوب شرقي البحر المتوسط حيث تجد نفسها تقف بين الناتو وروسيا والعالم العربي والشيعة. وليست هذه أشياء مبتدعة في التاريخ التركي ولكنها اليوم أدوات أكثر اتساقاً وانسجاما من الناحيتين السياسية والثقافية. السفير بيفير: دور تركيا في الشرق الأوسط لن يتأثر باتفاقية الناتو علاوة على ذلك،أفترض أن التوترات في المنطقة سوف تزداد في المستقبل المنظور بسبب محاولة الدفع باعتراف بالدولة الفلسطينية في الأممالمتحدة. وسوف تستجيب إسرائيل بصورة من الصور غير أن طريقة وتأثير رد فعلها هذا ليس واضحا على الإطلاق. لكن الباحث في مركز العلاقات الدولية في بولندا بايتور زيلوسكي يرى ان نظرية " تصفير المشكلات" أصبحت على الرفّ. مضيفاً بأن هذه النظرية هي هدف استراتيجي للسياسة الخارجية التركية، لكن بالنظر إلى الاضطرابات الحالية التي يمر بها الشرق الاوسط فمن غير الواقعي تحقيق الهدف ... مشيراً إلى ان تركيا في مرحلة إعادة تنظيم وتعديل سياستها الخارجية. بايتور زيلوسكي لكن هل سيجعل هذا المشروع تركيا دولة مواجهة . يشير هنا الدكتور بولنت رضا إلى أن تركيا تأمل في المساعدة في التوسط للوصول إلى صفقة مع إيران لتفادي خطر صدام حقيقي بين طهران والغرب. ويضيف موقف تركيا من إيران مماثل لموقفها من قبل مع العراق ومع ازمة ليبيا وسورية في مراحلها الأولى .وكما صرح به الرئيس اوباما، يأمل الغرب في أن تكون تركيا جسراً للتواصل بين دول الشرق الأوسط والغرب لحل المشاكل القائمة. لكن الدكتور رضا يعود ليحذر من أنه إذا ما ساء الوضع مع إيران وأصرت الأخيرة على المضي قدماً في تنفيذ برنامجها النووي فستعتبر إيران تركيا دولة مواجهة. أما الدكتور تسيتوني فيرى أن سياسة تركيا الخارجية ليست "ثورية" فطالما أنها تتطلع لأن تمثل دور اللاعب الإقليمي الرئيس، فقد أبدت تركيا رغبتها في تحقيق الاستقرار للوضع وليس مفاقمته. ويضيف: لا تركيا ولا إسرائيل ( لأسباب مختلفة) ترغبان في تأجيج صراع مفتوح أو الدخول فيه. ومن الناحية الأخرى، فإن سوريا وزعامتها تبدوان على أنهما العنصر الأكثر أهمية فإذا استمر العنف الداخلي في التصاعد فليس من غير الممكن التفكير في عمل يقوم مقام "كبش الفداء" من قبل حزب الله مثلا في لبنان أو حماس في قطاع غزة المحتل. وباختصار ، اعتقد أن تركيا تعمل على تعزيز مكانتها الدولية بعد أن أصبحت نقطة "جيوسياسية" مرجعية في العالمين العربي والإسلامي لدوافع ذات صلة بالأمن والطاقة. " الرياض" سألت الخبراء هل ستفقد تركيا دور الوسيط في الشرق الأوسط بعد أن كانت تحظى بالثقة في فترة من الفترات لقيادة مفاوضات سورية إسرائيلية ، وحظيت بالمشاركة مع البرازيل في جهود من اجل انجاز اتفاق حول الملف النووي الإيراني. . يؤكد الدكتور بولنت رضا بأن أنقرة حريصة على المحافظة على دورها كوسيط في الشرق الأوسط. وأضاف كما نعلم فقد حاولت تركيا جاهدة للوصول إلى اتفاق بين سورية وإسرائيل ولكن علاقتها بالبلدين ساءت في الآونة الأخيرة. وتسعى تركيا الآن، على سبيل المثال، إلى تحقيق اتفاق بين حماس وفتح وبين حزب الله وبقية الفصائل اللبنانية وفي العراق بين السنة والشيعة وبين باكستان وأفغانستان. وبالرغم من الصعوبات التي تكتنف العالم اليوم إلا أن تركيا حريصة على لعب دور الوسيط بين الغرب والعالم الإسلامي. وقد تأثرت العلاقات كثيراً بين الولاياتالمتحدة والعالم الإسلامي بسبب العمل العسكري الأميركي الاحادي الذي قامت به إدارة الرئيس بوش ولكن الرئيس اوباما يحاول تصحيح الوضع وتلعب تركيا دوراً في ردم الهوة بين الجانبين. أما الدكتور تيستوني فيشير إلى أن تركيا في حد ذاتها تمثل عنصر استقرار حيث ان العديد من الدول العربية وسكانها يعترفان بدور ومكانة أنقرة كوسيط شرق أوسطي (وهو دور تخلت عنه الولاياتالمتحدة تحت إدارة اوباما بطريقة أو بأخرى) غير أن مكمن الخطر فيما يبدو يتمثل في دور تركيا المتزايد في التوازن الإقليمي للقوى ، خاصة في نظر طهران ودمشق.