«بدا الزمن كأنه الأكثر سعادة والأشد بؤساً، الربيع والشتاء معاً... بدا الجميع كأنهم يسيرون في الوقت نفسه صوب الجنة أو إلى... الاتجاه الآخر» (تشارلز ديكينز في «قصة مدينتين»). إنه عالم يشبه ما بعد ثورات الهزيع الأخير من القرن التاسع عشر، عالم ما بعد الثورة الفرنسية. ذهب القديم، لكن الجديد لم يأت. ليس بعد. على وقع هذه الكلمات وما يشبهها، يستهل تقرير «اتجاهات عالمية 2030: عوالم بديلة» Global Trends 2030: Alternative Worlds الصادر أخيراً عن «وكالة الاستخبارات الوطنية (الأميركية)»، سرد رؤيته عن الآتي من الأيام، مُشدّداً على أنه لا يقدّم «تحديقاً في بلورة سحرية» لكشف ما يكون عليه العالم في 2030. ويصف نفسه بأنه مجرد محاولة جدّية لقراءة للمتغيّرات المتفاعلة من شأنها أن تساهم في رسم صورة ما ربما تسير فيه الأحوال عالمياً خلال السنوات العشرين القادمة. يفتتح التقرير على رصد 4 ميول فائقة Mega Trends ما برحت تتدفّق منذ عقود، ويُرَجّح أن تستمر في رسم الآفاق العامة في الحقبة المقبلة. وتتمثّل أول هذه الميول الفائقة في استمرار صعود الفردية وتصاعد قواها. وتتشكّل الثانية في الميل المتنامي لتوزّع القوة وتعدّد مراكزها عالمياً. وتتجسّد الثالثة في الميول الديموغرافية الأساسية لسكان الكرة الأرضية. وترتسم الرابعة عبر التشابك المُعقّد بين الطاقة والغذاء والمياه، مضافة إليها البيئة ومتغيّراتها. واستناداً إلى هذه الميول الفائقة الأربعة، يلفت التقرير النظر إلى زلازل ضخمة ربما اجتاحت المشهد العالمي، مُستعيراً مصطلح «الانتقال التكتوني» Tectonic Shifts المستخدم في علوم الجيولوجيا كوصف لآلية حدوث الزلازل الكبرى، كي يُشدّد على الأمدية الضخمة التي تحرّكها هذه الزلازل، بل تتحرّك ضمنها أيضاً. ويرصد التقرير 7 زلازل من هذا النوع هي: 1- النمو المذهل للطبقة الوسطى، بالترافق مع ظاهرة تُرصد للمرة الأولى في تاريخ الجنس البشري متمثّلة في عيش غالبية السكان خارج خط الفقر. 2- زيادة وصول الأفراد والمجموعات الصغيرة الى قوى كانت تمتلكها الدول، خصوصاً في مجال الضربات الدقيقة والأسلحة الرقمية والبيولوجية. 3- انتقال مزيد من القوة إلى دول الجنوب والشرق بشكل متصاعد. 4- سيطرة العيش الحضري وتمركز السكان في مُدن كبرى. 5- زيادة كبيرة في عدد كبار السن، ما يؤثر في هرم السكان ويوسّع قمته، وانتشار هذه الظاهرة عالمياً خارج منشئها التقليدي في الدول الصناعية الكبرى. 6- تصاعد الضغوط على مصادر المياه والغذاء، مع احتمال اندلاع توترات (وربما حروب) بسببها. 7- استقلالية الولاياتالمتحدة في الطاقة للمرة الأولى منذ آجال طويلة، واستغناؤها عن نفط الشرق الأوسط. ويعتبر التقرير هذه الاستقلالية زلزالاً ضخماً في المشهد العالمي، مُشدّداً على أنها استقلالية حدثت أساساً بفضل التقدم التكنولوجي والعلمي أميركياً في التقنيات المتصلة بالطاقة، على غرار تطوير مصادر «النفط الخفيف الربط» Light Tight Oil الذي يحمل أيضاً تسمية «شايل» Shale Oil. ويلفت إلى أن أميركا مُرشّحة للتفوق على السعودية في انتاج النفط، بل ربما تحوّلت بائعاً دولياً للطاقة التي تحصل عليها عبر تقنيات علمية متطوّرة، مع توقّع أن يصل إنتاجها من نفط «شايل» إلى عشرين مليون برميل يومياً. [email protected]