في هذه الأيام أصبح من المؤكد بصورة علمية وواقعية أن عمر البترول محدود حيث إن احتياطياته تتناقص بصورة غير مسبوقة بسبب الاستنزاف المتسارع لتلبية متطلبات السوق الذي يزداد شراهة يوماً بعد يوم، والذي بدوره يعكس النشاطات المحمومة من قبل الدول المختلفة في مجالات التنمية لتلبية الزيادة المتواصلة في عدد السكان وتنوع الاستثمارات. الدول المنتجة للبترول التقليدي على مفترق طرق ولايزال لديها فسحة من الزمن تستطيع خلاله الحراك واستثمار عائدات البترول المرتفعة في ايجاد مصادر دخل أخرى تعاضده في البداية وتكون بديلا له على المدى الطويل. فحتى تصنيع البترول إلى مشتقاته سوف يحظى بمنافسة شرسة ولاشك ان ذلك بمجمله يعني ان نضوب البترول مسألة حتمية ولا تعدو مسألة وقت وذلك ان التقدير المتفائل لهذا الحدث لا يتعدى نهاية القرن الحادي والعشرين الذي نعايشه، ولاشك ان العامل الرئيسي وراء تلك الزيادة المتسارعة في الطلب والتي تعكسها توقعات وكالة الطاقة الدولية ومنظمة الأوبك وإدارة معلومات الطاقة الأمريكية حيث تشير تلك التوقعات إلى ان الطلب على البترول في تزايد مستمر حتى عام (2030) وهذا يعني ان العالم مقبل على أزمة طاقة لم يشهدها من قبل ولذلك فإن أسعار البترول سوف ترتفع ارتفاعاً غير مسبوق. إن أغلب التوقعات مبنية ومحسوبة باستخدام نماذج رياضية تأخذ بعين الاعتبار عددا كبيرا من المتغيرات. وإذا أضيف إلى ذلك ان تلك التوقعات مصحوبة في الغالب بأجندة سياسية واقتصادية واستثمارية تمارس أنواعا من الضغوط لتحفيز الجهات ذات العلاقة بالتحرك بصورة فعالة للاستفادة من المصادر غير التقليدية للبترول والغاز وفي نفس الوقت شحذ الهمم لتطوير مصادر الطاقة البديلة والمتجددة والآمنة بحيث تصبح أكثر كفاءة وأقل تكلفة مما هي عليه الآن ناهيك عن توسيع دائرة استخدامها. إن مستقبل البترول كمصدر أول للطاقة أصبح مهدداً بثلاثة عناصر تتكالب عليه وهي: * العنصر الأول يتمثل في أن البترول سلعة قابلة لنضوب وهذا الأمر ليس من قبيل التوقعات بل هو حقيقة مشاهدة ولعل خير أمثلة توضح ذلك ما يلي: - أن الولاياتالمتحدةالأمريكية كانت من أكبر الدول المنتجة للبترول وقد وصلت إلى ذروة انتاجها بين عامي (1971 - 1975) حيث كانت تنتج في ذلك الوقت ما يربو على عشرة ملايين برميل في اليوم ثم بدأ الانتاج في الانحدار نتيجة نضوب بعض المكامن هناك حتى وصل في الوقت الحاضر إلى ما يقرب من (4 - 5) ملايين برميل في اليوم وبذلك أصبحت أمريكا من أكبر مستوردي البترول. - انتاج بترول بحر الشمال في بريطانيا وصل إلى ذروته في بداية التسعينيات من القرن المنصرم ثم بدأ في الانحدار بصورة دراماتيكية. - أكدت الصين أن انتاج اثنتين من أكبر مناطق انتاج البترول لديها بدأتا في الانحسار بصورة جوهرية. - صرحت الشركة القومية لانتاج البترول في المكسيك ان انتاج حقل (كانتاريل) قد وصل ذروته عام (2006) وانه بدأ بالتدهور بصورة ملحوظة منذ ذلك الوقت. والأمثلة على نضوب البترول كثيرة ولا يتسع المجال لذكر المزيد منها سواء القريب منها أو البعيد والكيّس من اتعظ بغيره واستفاد من تجارب الآخرين. * ونتيجة للتوقعات والحقائق حول نضوب البترول التقليدي اتجهت الدول المتقدمة وفي مقدمتها أمريكا إلى اللجوء إلى مصادر البترول والغاز غير التقليدية وذلك بعد أن استطاعت تطوير تقنيات الحفر وتكنولوجيا المعالجة ما مكنها من التوصل إلى انتاج البترول والغاز من مصادر غير تقليدية مثل معالجة البترول الثقيل جداً، وبترول الرمال المتراصة (oil sands) والمسمى بتيومين، و،السجيل الزيتي (oil shale) والسجيل الغازي (gas shale) هذا بالاضافة إلى ان التقنيات الحديثة تمكنت من تحويل الغاز إلى بترول واستخلاص البترول من الفحم الجيري.. وفي كل الأحوال عند الحصول على البترول من تلك المصادر يتم تكريره وفرزه إلى مشتقاته المعروفة بطرق التكرير المعتادة. إن تلك التحولات ليست تخرصات بل هي واقع حي ولعل خير شاهد على ذلك ما شهدته وتشهده الساحة في الولاياتالمتحدةالأمريكية من ثورة في مجال إنتاج الغاز من صخور السجيل فمن المفارقات ان أمريكا كانت تستورد نسبة كبيرة من حاجتها من الغاز وبنت لهذا الغرض خزانات ضخمة. أما اليوم وبفضل تقنيات الحفر الأفقية وتكنولوجيا المعالجة المبتكرة استطاعت أمريكا انتاج الغاز من السجيل الغازي وأصبح انتاج الغاز من ذلك المصدر يغطي الاستهلاك المحلي ما أغنى أمريكا عن استيراد الغاز وربما في المستقبل القريب تصبح من أكبر مصدريه على الأقل للدول المجاورة لها. هذا وقد تنبهت شركات البترول والغاز العالمية لهذه الفرصة الاستثمارية في أمريكا فاتجه عدد كبير من شركات النفط والغاز في كل من كندا والنرويج وفرنسا وبريطانيا واستراليا إلى الاستثمار في حقول غاز السجيل الأمريكي من خلال الاستحواذ على بعض شركات النفط الأمريكية وشراء حقول انتاج الغاز هناك بأغلى الأسعار ليس هذا فحسب بل إن عددا من شركات النفط والغاز في كل من الهند وكوريا واليابان قد استهوتها تلك الفرص فدخلت فيها بقوة كما أن الشركات الأمريكية العملاقة قد بدأت تستحوذ على الشركات العاملة في هذا المجال. وفي الحقيقة فإن تلك الثورة في مجال انتاج الغاز ما كان لها أن تحصل لولا التقدم الهائل في مجال تكنولوجيا الحفر الأفقي وتقنيات المعالجة والتكسير.. وهذا التقدم ما كان له ان يحدث لولا ثقافة الاستعداد للمستقبل من خلال دعم البحث العلمي التطبيقي وحفزه من خلال التخويف من الاحتمالات السوداوية لمستقبل الطاقة وفي مقدمتها احتمال نضوب البترول. أما المثال الثاني على انتاج البترول من الرمل الزيتي oil sande وزيت السجيل فهو ما تقوم بها كندا من جهود مضنية في سبيل استخلاص البترول من تلك المصادر وقد بلغ انتاجها من البترول المستخلص من الزيت الرملي عام (2005) ما يزيد على (750) ألف برميل يومياً ومنذ عام (2006) زاد انتاجها إلى ما يقارب (1.1) مليون برميل يومياً وهي بصدد زيادته بصورة أكبر، ومن المتوقع ان يبلغ (3.3) ملايين برميل بنهاية العقد الحالي. نعم إن التوجه نحو الحصول على البترول من المصادر غير التقليدية ليس حصراً على أمريكا وكندا بل هو توجه لعدد كبير من الدول خصوصاً المتقدمة منها مثل فرنسا وبريطانيا واستراليا وفي نفس الوقت يتم الاغداق على مراكز البحث والتطوير من أجل تطوير تقنيات تخفض التكلفة وتزيد من الانتاج وتحمي البيئة. والذي اتوقعه انه خلال فترة لن تطول فسوف يستطيع العلم إحداث ثورة تقنية ملموسة في هذا الاتجاه ولعل الدافع وراء ذلك هو العداء للبترول العربي من جهة، وتوفر احتياطيات ضخمة من البترول في المصادر غير التقليدية له من جهة أخرى؛ حيث تذكر التقديرات المتحفظة ان تلك الاحتياطيات قد تصل إلى ما يربو على ستة ترليونات برميل من البترول أي أكثر من ضعف احتياطيات البترول التقليدي المعروفة. * المصادر الأخرى للطاقة التي تهدد عرش البترول التقليدي تتمثل في البحث الدائب عن مصادر طاقة بديلة ومتجددة وآمنة للبترول وقد تم التوصل فعلاً إلى الاستفادة من بعض تلك المصادر بصورة جزئية وذلك مثل استغلال الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وخلايا الوقود وطاقة الكتلة الحيوية والطاقة النووية. أما طاقة المياه وطاقة الجاذبية الأرضية وطاقة القمر وطاقة الثلج (هيدريدات الغاز) في المناطق المتجمدة وأعماق المحيطات فإنها قيد الدراسة والبحث. إن الحديث عن الاستفادة من مصادر الطاقة البديلة كان في زمن سابق نوعا من الخيال العلمي، أما اليوم فإن بعضا من تلك المصادر أصبح حقيقة واضحة كوضوح الشمس في رابعة النهار. إن كثيرا من الدول المنتجة للبترول والمملكة واحدة منها لازالت تعتمد على دخل انتاج البترول وتصديره بصورته الخام بنسبة تصل إلى أكثر من (80٪ من الدخل القومي للدولة على الرغم مما يعكر صفو إنتاج البترول وتصديره من عقبات يتمثل بعض منها في عدم استقرار المنطقة أو طرق مواصلات نقله، أو تذبذب أسعاره، أو احتمالية نضوبه على المدى المتوسط والطويل أو توفره من خلال قدرة الدول المتقدمة على انتاجه من مصادره غير التقليدية الآنفة الذكر، أو النجاح في ايجاد بدائل له متجددة وآمنة وذات تكلفة منافسة. إن الدول المنتجة للبترول التقليدي على مفترق طرق ولايزال لديها فسحة من الزمن تستطيع خلاله الحراك واستثمار عائدات البترول المرتفعة في ايجاد مصادر دخل أخرى تعاضده في البداية وتكون بديلا له على المدى الطويل. فحتى تصنيع البترول إلى مشتقاته سوف يحظى بمنافسة شرسة. فعلى سبيل المثال لا الحصر يمكن للولايات المتحدة بعد توفر غاز السجيل لديها ان تقيم مئات المصانع البتروكيميائية ما ينعكس سلباً على الصناعات البتروكيميائية في جميع أرجاء العالم خصوصاً في منطقة الخليج العربي. وهذا ينطبق أيضاً على المشتقات الأخرى للبترول. لازال لدينا الوقت الكافي والمحدود اللازم لتوطين اقتصاد المعرفة كواحد من أهم البدائل الواعدة والناجحة والتي استثمرتها دول عديدة تمكنت من خلالها التحول من الفقر إلى الغنى، ومن التخلف إلى التقدم ولعل ما قامت وتقوم به دول محدودة المصادر الطبيعية خير شاهد على ذلك والتي يأتي في مقدمتها كل من ماليزيا وسنغافورا وإسرائيل وكوريا واليابان والصين وتايوان ودول أخرى فهمت الدرس وأخذت تعمل على تطبيقه.. إن التقدم والمنافسة والسباق مشرع على مصراعيه لمن لديه الهمة والعزيمة والوسائل المساندة وفي مقدمتها تعليم متميز وتدريب متواصل وتواصل مستمر مع كل مستجد وحديث والإصرار على كسب الخبرة وتأصيل توطينها.. والله المستعان.