قرأت منذ أيام قليلة تفاصيل مقابلة أجراها أحد كبار كتاب جريدة «وول ستريت جورنال» مع هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون. تحدث بإيجاز شديد عن أمور شتى. لفت انتباهي في حديثه ما ورد في أمرين متصلين. كان يتحدث عن تغيرات القيادة السياسية في الصين حين اختار أن يعرب عن رأيه الشخصي في بعض القادة الجدد مبرزاً تقديره لذكاء الرئيس الجديد وخبرته. وكان كيسنجر حريصاً على الإشارة بصفة خاصة إلى ضرورة تفادي احتمالات الصدام العسكري المباشر بين الصين والولاياتالمتحدة على ضوء قوة الصين المتزايدة. تحدث أيضاً في مغزى التقرير الجديد الذي أعلنته وكالة الطاقة عن الزيادة المتوقعة في حجم إنتاج الولاياتالمتحدة من النفط والغاز في السنوات المقبلة مستفيدة من زيادة سعر برميل النفط في السنوات الماضية وهي الزيادة التي سمحت بتغطية كلفة استخدام أجهزة تكنولوجيا متقدمة. تحدث أيضاً عن احتمال أن تتصدر أميركا قائمة الدول المنتجة للنفط بحلول عام 2020 وأثر هذا التطور على العلاقات الدولية. تعودت أن أعير تصريحات كيسنجر الاهتمام الذي تستحقه حتى وإن اختلفت مع اقتناعاتي وتحليلاتي، فالرجل وإن بلغ التسعين من عمره، أو كاد، ما زال يحتفظ بمخزون متميز من الواقعية السياسية التي تجعله يرى العالم من منظور رئيسي واحد، وهو المصلحة القومية الأميركية. هو لا ينكر أهمية عنصري الأخلاق والأيديولوجية عند تحليل أو صنع السياسة الخارجية لدولة من الدول، ولكنها الأهمية التي لا يجب أن تكون الغالبة في التحليل أو في عملية صنع السياسة. أقرأ باهتمام ما يقوله أو يكتبه عن الصين، خصوصاً أن تجربته العملية مع الصين، ابتداء من مفاوضاته لإخراج الولاياتالمتحدة من وحل فيتنام بأقل درجة ممكنة من المهانة، وصولاً إلى سياسة الانفتاح على الصين، تجربة ثرية وربما كانت أهم إنجاز ديبلوماسي حققه في حياته وفي تاريخ الديبلوماسية الأميركية. تأكدت أنه على رغم علامات الإعياء والشيخوخة الباديتين على هيئته وصوغه تصريحاته، ما زال متابعاً للشأن الصيني حين تحدث عن أعضاء اللجنة الدائمة التي جرى تشكيلها هذا الشهر خلال انعقاد مؤتمر الشعب العام للحزب الشيوعي الصيني. السؤال الكبير الذي أتصور أن وزارات الخارجية في دول عدة تحاول الإجابة عليه، هو المتعلق بالقوة الحقيقية التي يتمتع بها شي جين بينغ، الزعيم الجديد المقرر أن يتولى رئاسة الصين في آذار (مارس) المقبل إلى جانب أمانة الحزب الشيوعي الصيني. تشير التجارب السابقة، ويؤكد كيسنجر هذه الإشارات، إلى أنه منذ أن تقرر أن تكون القيادة في الصين جماعية، لم يحدث أن تمتع الزعيم الأكبر، أي أمين عام الحزب، بسلطات فائقة. يقول كيسنجر إن الناس في الغرب لا تعرف أن نفوذ الرئيس الصيني أقل كثيراً من نفوذ الرئيس في أميركا، بينما يتحدثون عن ديكتاتورية الحكم في الصين وديموقراطية اتخاذ القرار في أميركا. هؤلاء لا يعرفون أن القيود التي تقيد حرية الرئيس الصيني في اتخاذ القرار السياسي أشد وأكثر من القيود التي تقيد حرية الرئيس الأميركي. فالقرار في الصين لا يصدر إلا بالتوافق بين الأعضاء التسعة، وقد صاروا سبعة، في اللجنة الدائمة. الأمر الذي يتطلب مجهوداً شاقاً للحصول على موافقة جماعية. من ناحية أخرى، يتوقع الكثيرون في الغرب أن يكون للمؤسسة العسكرية دور أكبر في صنع السياسة، بخاصة السياسة الخارجية للصين، يتناسب مع صعود مكانة الصين السياسية والاقتصادية. وهناك شكوك كبيرة لدى صانعي السياسة في الدول الغربية، ودول الجوار في شرق آسيا، في صدق أو دقة ما يصدر عن الصين من تقارير ودراسات تشير إلى أن المؤسسة العسكرية خاضعة تماماً للقيادة السياسية، بدليل أن مدنياً من أعضاء اللجنة الدائمة للحزب يرأس اللجنة العسكرية في الحزب الشيوعي الصيني. تشير مؤشرات أخرى إلى أن قادة عسكريين في الجيش الصيني صاروا يتدخلون، بتصريحات وخطابات، في الشأن السياسي، يهدفون إلى إثارة الوعي القومي لدى الجماهير ضد اليابان أو الفيليبين أو غيرهما من الدول التي تحتل جزراً تعتبرها الصين ملكاً لها. الأمر المؤكد في كل الأحوال وفق روايات متعددة محل ثقة هو أن المؤسسة العسكرية الصينية تضغط من أجل إقامة صناعة عسكرية متطورة والتحول بالصين إلى قوة بحرية ضخمة. يستبعد كيسنجر، مثل آخرين، أن تمثل الصين تهديداً خطيراً للولايات المتحدة في الأجل القصير، ولكنه مع ذلك، ومستنداً إلى قراءته للتاريخ العسكري الأوروبي في القرن التاسع عشر، ينصح القادة الأميركيين بأن يتمثلوا بقادة الإمبراطورية البريطانية الذين تفادوا المواجهة المباشرة مع جيوش نابليون بونابرت بإثارة مشاكل لنابليون في أطراف ثالثة مثل إسبانيا. الهدف هو إنهاك قوة الخصم الصاعد في سلم القوة الدولية من طريق إشغاله في صراعات وحروب جانبية. جانب من هذا التفكير كان من دون شك وراء الجهد البارز الذي مارسته الديبلوماسية الأميركية في منطقة شرق آسيا وجنوبها خلال الأعوام الأخيرة لتتوحد دول المنطقة ضد ما يسمى بمشاريع التوسع الصيني والتهديد الذي تمثله لها زيادة القوة العسكرية والاقتصادية للصين. كانت متابعتنا لهذا الجهد المشترك من جانب الدولتين خلال الفترة الماضية سبيلنا لقياس مدى استعداد الطرفين لتصعيد السباق بينهما في آسيا ودراسة أساليب الزحف البطيء في استراتيجية بكين لإقامة فضاء صيني واسع. قد يكون من المبكر إصدار حكم بنتيجة المرحلة الأولى لهذا السباق، إلا أنه لا يمكن إنكار أن الديبلوماسية الأميركية، على رغم وجود أوباما وكلينتون على رأس وفد أميركا في اجتماعات فنوم بينه، فشلت في توحيد دول «الآسيان» في القمة التي انعقدت في كمبوديا وراء موقف موحد مؤيد للفيليبين في نزاعها مع الصين حول ملكية جزر في بحر الصين الجنوبي. ولا أريد أن أذهب بعيداً أو أبالغ فأقول إن تدخل أوباما بالشكل الحاسم الذي تدخل به في مفاوضات حرب غزة وإيفاده هيلاري كلينتون إلى إسرائيل ومصر كان ربما في أحد جوانبه فرصة لتغطية عجز الديبلوماسية الأميركية في اجتماع «الآسيان». أتوقع في السنوات القليلة المقبلة زيادة جهود الديبلوماسية الأميركية في سعيها لتشتيت القوة الصينية البازغة وعرقلة مسيرتها في آسيا، وزيادة في ضغطها لإنهاك ديبلوماسية الصين في نزاعات وسباقات نفوذ، وهو الأمر الذي لمّح إليه كيسنجر عندما تحدث عن أن وفرة الطاقة لدى أميركا لن تعني الهدوء في الشرق الأوسط وإخلاءه لمصلحة النفوذ الصيني. الشرق الأوسط مرشح ولسنوات عدة مقبلة ليبقى بؤرة توتر عالمي رهيب والصين طرف لأسباب عدة. لا يجوز التهوين من ضخامة التحديات التي تواجه القيادة السياسية الجديدة في الصين. يبدو تحدي المؤسسة العسكرية أهم هذه التحديات، بينما يبدو لآخرين تحدي الاضطرابات الاجتماعية هو أهمها جميعاً. نعرف أن الصين شهدت 180 ألف تظاهرة أو حركة احتجاج طوال عام 2010 بينما لم يتجاوز عددها 40 ألفاً في عام 2002. نعرف أيضاً أن عدد مستخدمي الشبكة العنكبوتية في الصين بلغ 500 مليون شخص بينما كان عددهم 60 مليوناً قبل عشرة أعوام. هؤلاء، المحتجون ونشطاء الشبكة، صاروا من وجهة نظري يشكلون القوة الرابعة في النظام السياسي الصيني. هذه القوة لم تكن موجودة في عهد ماو تسي تونغ، وتجاهل وجودها الجيل الثاني والثالث من قادة الصين، وها هي تفرض وجودها على الجيل الرابع. كان ماو تسي تونغ يتعامل مع صراعات القوة باستخدام منهج الثورة الدائمة. بهذا المنهج استطاع كبح طموحات بيروقراطية الدولة الصينية العتيدة ذات مرة لمصلحة بيروقراطية الحزب، وفي الثورة الثقافية استطاع كبح جماح بيروقراطية الحزب وهيمنته لمصلحة المؤسسة العسكرية، وهكذا. السؤال المطروح الآن وسيظل مطروحاً لسنوات مقبلة، هو المتعلق بقدرة القيادة السياسية الصينية بتشكيلها الراهن على إدارة خلافات مختلف القوى وصراعاتها، العسكرية والحزبية والبيروقراطية والرأي العام، من دون اللجوء إلى منهج الثورة الدائمة، بعد أن تخلت عن الشرعية الأيديولوجية وشريعة الثورة وتعاليم الاشتراكية. * كاتب مصري