منذ أكثر من أسبوعين، احتدم الغضب بين الصين واليابان، الذي وصل إلى حد التحدّي بين العملاقين الآسيويين، وألقى بظلاله على السلام والاستقرار في منطقة بحر الصين الشرقي. وتتجاوز القضية الصراع الثنائي، لأن المسألة الجوهرية تتعلق بالموقف الجيوستراتيجي للصين تجاه الدول الإقليمية الواقعة في شمال شرقي آسيا والمحيط الهادي. وإذا كان بعض المحللين يربطون انفجار الغضب الصيني باعتباره عملاً من أعمال النزعة الوطنية، لا سيما في ظل هذه المرحلة السياسية الانتقالية التي تمر بها الصين مع اقتراب موعد المؤتمر ال18 للحزب الشيوعي الصيني، الذي ستكون مهمته تجديد القيادة الصينية، فإن الوجه الآخر للغضب هذا مرتبط بثقل التاريخ الذي عادة ما يلقي أيضاً بظلاله على العلاقات بين البلدين. ويتزامن التوتر الجديد بين الصين واليابان مع تصاعد حدة الأزمة بينهما على خلفية عدد من النزاعات الأخرى، لا سيما الاتهامات الصينية المتكررة لجارتها اليابان بالتغطية على جرائم الحرب اليابانية على شمال الصين، وتحديداً في منطقة منشوريا عام 1937، وعدم اعتراف اليابان بالأعمال الوحشية التي ارتكبتها أثناء الحرب العالمية الثانية، وذلك بالسماح للقادة العسكريين والسياسيين بزيارة مزار ياسوكوني المثير للجدل في طوكيو، فضلاً عن الموقف الصيني الحامي لنظام كوريا الشمالية، وانعكاس ذلك على مفاوضات اللجنة السداسية المعنية بالمحادثات حول برنامج كوريا الشمالية النووي (الكوريتان والولاياتالمتحدةواليابان وروسيا والصين) والتي ترأسها الصين في الوقت الحاضر، حيث تتهم طوكيو بكين بعدم ممارسة الضغط على بيونغ يونغ، وكذلك معارضة بيكين مسعى طوكيو للحصول على مقعد دائم بمجلس الأمن الدولي. وفي الفترة الأخيرة نشبت أزمة بين الصين واليابان، هي الأسوأ منذ أربع سنوات، بسبب أرخبيل من الجزر الصغيرة المتنازع عليها في بحر الصين الشرقي، وتسمي اليابان تلك الجزر سيناكاكو وتسميها الصين دياويو وتدعي ملكيتها منذ حكم سلالة مينغ (1368-1644)، وتتهم اليابان بعدم إعادتها إليها بعد الحرب العالمية الثانية وانتهاء فترة الاحتلال الياباني لأراضيها. وتقع جزر سيناكاكو، التي تطالب بيكين، على مسافة نحو 200 كيلومتر شمال شرقي سواحل تايوان، وعلى 400 كيلومتر غرب جزيرة أوكيناوا جنوباليابان. علماً أن الولاياتالمتحدة الأميركية سلمت هذه الجزر لليابان عام 1972، بعد أن كانت خاضعة لاحتلالها خلال الحرب العالمية الثانية. أسباب الصراع بين الصين واليابان باتت معروفة، حيث يؤكد البلدان أنهما يمتلكان حقوقاً تاريخية في هذه الجزر الغنية بالأسماك، ومن دون شك بالثروات المعدنية، لا سيما النفط والغاز. وأثار الصراع على السيادة على هذه الجزر النزعة القومية في البلدين كليهما. وقبل نحو ثلاثة أسابيع اشترت الحكومة اليابانية ثلاثاً من هذه الجزر من العائلة اليابانية التي كانت تملكها، الأمر الذي أثار حفيظة الصين التي عمدت فور الإعلان عن هذا الشراء إرسال مجموعة أولى من ست سفن انضمت إليها ست سفن أخرى لاحقاً. وكانت بيكين علقت قبل سنتين محادثات وزارية مع طوكيو، وألغت محادثات في شأن تطوير مشترك لحقول الغاز في عمق البحر وفي آخر مراحل هذه الأزمة، وأكدت اليابان أن الصين عاودت نشاطاتها في حقل للغاز. ومنذ نهاية الحرب الباردة أصبحت اليابان تنظر بقلق شديد إلى تنامي القوة الاقتصادية والعسكرية الصينية في محيطها الآسيوي. وهي ترى أن تربة الخلافات الصينية - اليابانية الخصبة تاريخياً تغذي الصراع التنافسي الجغرافي - السياسي بين اليابان والصين، وتعزز السباق على بسط النفوذ على مصادر الطاقة. وتسعى الصين إلى دور ريادي في جوارها الآسيوي وهي تستمد نفوذها من قوتها الاقتصادية. ولا شك في أن اليابان ترفض تحول الصين إلى قطب النفوذ في آسيا. الصين واليابان تتنافسان على النفوذ، وتظن إحداهما الظنون في الأخرى. وأولوية بكين هي الحؤول دون انفصال تايوان وإعلانها الاستقلال. وأولوية طوكيو هي مواجهة الخطر العسكري الصيني. ويمارس رجال الأعمال اليابانيين ضغوطاً مكثفة على حكومتهم لتحسين العلاقات مع الصين وهي أول شريك تجاري لليابان، والتي تأثرت سلباً في عهد رئيس الحكومة الياباني السابق كويزومي. فقد انتهج جونيشيرو كويزومي في سياسته الخارجية «التبعية للسياسة الخارجية للولايات المتحدة» وأهمل جيرانه الآسيويين، وأصر على زيارة معبد ياسوكوني، حيث يرقد شهداء الأمة اليابانية ويكرم بعض مجرمي الحرب، متجاهلاً انتقادات الدول الآسيوية التي عانت من النزعة العسكرية اليابانية في الحرب العالمية الثانية. وقد أهانت زيارته الأخيرة المعبد في 15 آب (أغسطس) 2006، يوم هزيمة اليابان، بكين وسيول على حد سواء. وكان معبد ياسوكوني رمز النظام العسكري الياباني، وبات اليوم رمز رافضي الإقرار بجرائم هذا النظام. لكن ما يقلق طوكيو هو الصعود المدوي للصين إلى المرتبة الثانية كقوة اقتصادية عالمية، خلف الولاياتالمتحدة الأميركية بكثير، ولكنها متقدمة على اليابان. ففي عام 2010، ارتفع الناتج المحلي الإجمالي للصين إلى نحو 1336،9 بليون دولار(1053 بليون يورو) مقابل 1288،3 بليون دولار لليابان. أما بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، فإن تقديرات صندوق النقد الدولي أشارت إلى أن ناتجها المحلي الإجمالي بلغ نحو 15000 بليون دولار خلال عام 2010، أي ما يعادل ثلاث مرات الناتج المحلي الإجمالي لكل من الصين واليابان مجتمعتين. وما انفك الفارق يتوسع بين الصين واليابان في ظل وجود اختلاف في وتيرة التنمية بين العملاقين الآسيويين (10،5 في المئة للأول، و0،1 في المئة للثاني). ومع ذلك، يظل الناتج المحلي الإجمالي للفرد في الصين 3600 دولار، مقابل 46000 دولار في الولاياتالمتحدة الأميركية، و33500 دولار في اليابان. لقد أكدت الأزمة الكبيرة للعولمة الليبرالية دور الصين كمحرك للتاريخ، معززة بذلك انتقال مركز الرأسمالية العالمية نحو الشرق الأقصى. وهذا ما جعل نظرة اليابانيين للولايات المتحدة الأميركية كقوة مفرطة في عظمتها تجر وراءها الاقتصاد العالمي، تتغير، إذ بدأت طوكيو تلاحظ أن هذه القوة الأميركية أخذت تتراجع شيئاً فشيئاً على صعيد ترجمة نفسها إلى سلطة ونفوذ دوليين، وهي باتت غير قادرة، كما كان الأمر في السابق، على فرض رؤيتها على الآخرين. وهناك من يجزم ببدء تلاشي أوهام «الانتصارية» الأميركية في أذهان اليابانيين، هذه الانتصارية التي بشر بها المفكر «فرانسيس فوكوياما»، بعد نهاية الحرب الباردة في كتابه المعروف، حتى إن عنوان كتابه الأخير «أميركا على مفترق الطرق»، تم تعديله في الترجمة اليابانية ليصبح «نهاية أميركا»! وعلى رغم التبادل التجاري المزدهر بين الصين واليابان، حيث بلغت الصادرات اليابانية إلى الصين 13 في المئة (من جملة الواردات الصينية) في 2006، بعدما كانت 3 في المئة قبل عقد من الزمن، وبلغت أيضاً الاستثمارات اليابانية في الصين رقماً قياسياً في 2005، هو 6،5 بليون دولار، فإن العلاقات الصينية – اليابانية بلغت ذروة التوتر في عهد كويزومي، على ما تشهد هذه العلاقات منذ تطبيع العلاقات الديبلوماسية بين البلدين، في 1972. وعلى رغم هذا التكامل الاقتصادي، لا تزال الحرب الصينية- اليابانية (1937-1945) ترخي بثقلها على العلاقات الديبلوماسية بين البلدين. وتأتي الأزمة الأخيرة بين الصين واليابان، لتزيد من حالة الاستنفار والاستعداد وتوقع الصراعات على الساحة الآسيوية بين اليابان والصين والهند، حيث يشعر كل من هذه القوى الإقليمية الكبيرة بأنه ليس في مأمن من الأخطار والتهديدات المحيطة. فهناك جزر متنازع عليها بين الصين واليابان في بحر الصين الجنوبي أولاً، وهناك حدود متنازع عليها بين الصين ودول عدة تقع في جنوب شرقي آسيا ثانياً. وهناك الحدود المتنازع عليها بين الصين والهند، في منطقة جبال الهملايا، التي تقع في الشمال الشرقي للهند، وتحديداً في ولاية أروناشال باراديش الهندية، والتي تلقبها الصين ب «التيبت الجنوبية» ثالثاً. إضافة إلى الصراع التنافسي بين الصين والهند في منطقة آسيا، يطفو الصراع الهندي الباكستاني على المسرح الإقليمي الآسيوي بقوة، لأنه يؤثر مباشرة في التوازن الإستراتيجي في آسيا، بسبب تحالف الصين مع باكستان، وتحالف الهند مع الولاياتالمتحدة الأميركية. والذي زاد من زيادة التوتر في العلاقات الهندية الصينية، المقالة التي نشرتها صحيفة «نيويورك تايمز» يوم 26 أيلول (سبتمبر) 2010، بتوقيع الرئيس السابق لمكتب صحيفة «واشنطن بوست» في جنوب آسيا، سيليغ هاريسون، والذي أكد فيها أن الصين نشرت ما يقارب 11000 جندي في سلسلة جبال الهملايا الباكستانية المحاذية للصين، حيث تقوم الصين بإنشاء بنى تحتية لمصلحة باكستان. وقد اعتبرت الهند هذا الوجود العسكري الصيني بمنزلة تحد لحقوقها التاريخية في كشمير المتنازع عليها مع باكستان منذ عام 1947. زيادة حدة التوتر بين الصين واليابان، وبين الصين وكل من فيتنام، وكوريا الجنوبية، والفيليبين، والهند، يعزوه المحللون الغربيون إلى استشعار الصين خطر التدخلات العسكرية الأميركية في القارة الآسيوية وسعي الولاياتالمتحدة لزيادة وجودها العسكري المصحوب بمناورات عسكرية مشتركة ومكثفة تجريها واشنطن مع حلفائها في المنطقة، بهدف محاصرة الصين إستراتيجيا في منطقة وسط آسيا، والتمركز في أفغانستان والدول الآسيوية الأخرى لتستخدمها كبؤر لإثارة النزاعات والاضطرابات والحروب التي تحول دون تقارب القوى الكبرى في القارة الآسيوية: الصين، والهند، وروسيا. * كاتب تونسي