تثير الفنانة التشكيلية تانيا باكليان صفي الدين المعروفة باسم «تنباك» في معرضها التي تقيمه في غاليري «أجيال» إشكاليات «العبور» إلى أمكنة موقتة خارج حدود الأوطان كواقع فرضته الحروب الآنيّة حتى أضحت سمة العصر، وما لها من انعكاسات ليس فقط على طرائق العيش وضيق الحركة داخل الأحياء الفقيرة وإنما على العشوائية في إعادة التشّكل المديني، الناتجة من النزوح والهجرات بسبب الحروب والمجازر وعمليات الإبادة الجماعية. عُرفت تنباك (مواليد 1954، بيروت) بأسلوبها الخاص في الدمج ما بين الرسم والتركيب، مع التركيز على مسائل التاريخ ضمن طروحات مفاهيمية، حيث يتقاطع البحث عن الذاكرة مع النص البصري، وهي تنشر استراتيجيات فريدة للاقتراب من موضوعات معقدة مثل الحرب والمحاربين، وحركة الجسم في الفضاء، وحقول اللون المجردة، وطبيعة الفن. وفي عملها الأخير، المكوّن من 16 لوحة مركبة من خامات بسيطة عبارة عن كرتون مقوى وطبقات إسمنتية بيضاء، اعتمدت في سردية النص البصري على اللون الأبيض بمؤداه العدميّ والمرضيّ (اللون الذي يذكر بالمستشفيات) في آن واحد، كمظهر متقشف للتعبير عن خرائط طوبوغرافية موهومة للأمكنة البديلة عن الوطن المفقود، فضلاً عن الموتيفات الزخرفية الآتية من أدوات خياطة ومدّخرات من بيوت الجدّات. العشوائية والنظام الهندسي الخفيّ، قطبان يتحكمان بالمظهر الجمالي الذي يهيمن على تركيب تنباك. فالمشهدية الأفقية للأبنية التي يفترض أن تشير إلى الحياة داخل المخيمات تحيل إلى نظرة علوية شمولية للمكان الذي هو بطبيعته خارج المكان والأعراف والحدود وبالتالي خارج الحياة. وهو السؤال الذي يطرح مسألة موزاييك العيش داخل أحزمة البؤس في المدن الكبرى كما يعيد إلى الأذهان مآسي الإبادة الجماعية للأرمن التي تنتقل ذكرياتها وحكاياتها من جيل إلى جيل. لذا حين بدأت تانباك بالتفكير في كيفية تصوّر موضوع اللجوء داخل المخيمات وحياة النازحين، برز لديها اتجاهين في وقت واحد: فمن ناحية، التوجه البعيد عن التمثلات الشائعة من العنف ومشهد الحرب، ومن ناحية أخرى، الاتجاه المعماري المنبثق من ذكريات طفولتها داخل الغيتو الأرمني في بيروتالشرقية، شمال أحياء الكرنتينا الصناعية، حين تكوّن في وعيها الأول مشهد بيوت النازحين المؤلفة من الكرتون وصفائح التنك، في أزقة تنعدم فيها حرية الحركة والنظام. وكان ذلك مؤشراً لنوع مختلف من استراتيجيات التنقل الذي أخذ يتحقق بصرياً لكي يؤكد راهنية لحظة التحول. مخيمات النزوح، معسكرات الاعتقال ومخيمات اللاجئين ومراكز الاحتجاز، والعيش في الأحياء الفقيرة... كل هذه العبارات تعني هياكل مماثلة: الملاجئ الموقتة والمساكن التي بنيت في الوقت الحاضر كي تغدو المطلق الخالي من المرجعية، وبالتالي جزءاً لا يتجزأ من تصاميم باطلة، من دون خطوط واضحة بين المخيم والمدينة، وليس لها حدود معلنة بين الداخل والخارج. هكذا يتم تصفية كل شيء ضمن خيالية من الخفاء على أساس مفهوم المسافة المطلقة. وهنا وقت ومكان الانهيار، حيث ولادة الفضاء المتشعب في كل مكان، والمسافة هي المهزلة البصرية. في بيروت لا تتعلق مسألة اللجوء فقط بالأرمن في برج حمود، بل بموجات لا تنتهي من الفلسطينيين والأكراد والعراقيين، والآن السوريين، الذين يشغلون الأحياء الفقيرة غير المرئية داخل بيروت، وبالتالي تزايد هيئة الخراب في الحركة الداخلية. وتنباك تكشف في عملها استحالة الطبوغرافية في رسم خرائط المكان على هامش الاضطرابات. في لوحات تنباك ثمة حقول من مكعبات ومستطيلات ومربعات متقاطعة عشوائياً من مواد فقيرة وموجودة، «يظهر معها التاريخ الحضَري ليس كما الشبحية ولكن كما الطيفية» بحسب وصف الكاتبة أمايا- أكيرمانس ويصبح رواية القصص منحرفة عن الإطار المنطقي للزمان والفضاء، في لغة تستخدم أوصافاً عبثية للواقع من أجل تشويهه وانتقاده. وفي استطلاعات تانباك يتحول مفهوم الانتقال ارتحالاً وعبوراً ليس في متاهة من إغماءة التاريخيّ فحسب، بل في ملامسة الجغرافيا البشرية في محطة من محطات الذاكرة الجماعية.