كثر الكلام في المدة الأخيرة عن «القيادة من الخلف»، في إشارة إلى موقف الإدارة الأميركية من قضايا العالم وكيفية تعاملها معها، بما فيها أساساً حرب الإبادة التي يشنها النظام السوري ضد شعبه منذ حوالى عامين، باعتبارها سياسة ثابتة لهذه الإدارة ولرئيسها باراك أوباما بعد إعادة انتخابه لولاية ثانية من أربع سنوات في البيت الأبيض. والمقصود بالعبارة أن الولاياتالمتحدة، خلال ولاية أوباما الثانية، لن تتخلى عن دورها القيادي في العالم، لكنها لن تتورط مباشرة في أي من قضاياه كما كانت حالها في العراق وأفغانستان أيام الرئيس السابق جورج بوش ومرحلة المحافظين الجدد. بكلمة أخرى، إن ما يوصف ب «قيادة» واشنطن العالم ستستمر لسنوات أربع أخرى لكن، من دون أن تتحمل القوة العظمى نتائجها ولا حتى أعباءها من جهة، ومن دون الظهور في صورة من يتجاوز أو يختصر قوى العالم الأخرى من جهة ثانية. والمعنى العميق لها أنها ستكون «قيادة» بالريموت كونترول، أو ربما على طريقة الطائرة من دون طيار، مع أن نظام الطائرات من هذا الطراز يجعلها تعمل من خلال مركز تحكم من بعد. هل يمكن تصور «قيادة» ناجحة، أو حتى سوية، للعالم بهذا الأسلوب؟ بل هل تكون «القيادة من خلف» قيادة فعلية في الأساس؟ واقع الحال، أن العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة كشف عجز إدارة أوباما الكامل عن المواءمة بين ما تعتبره «قيادة» من قبلها للعالم وإمكان أن تلعب هذا الدور من «خلف». خلال هذا العدوان الإسرائيلي، بدا جلياً غياب أوباما والولاياتالمتحدة كقوة عظمى وحيدة، ليس عن منطقة الشرق الأوسط وقضاياها فقط وإنما عن سياسات العالم كله أيضاً. سيقال إن واشنطن، في عهد أوباما كما في عهود غيره، دائماً ما تتحول إلى بطة عرجاء عندما يتعلق الأمر بإسرائيل وإن كانت الأسباب غير منطقية وغير مقبولة عربياً ولا حتى إنسانياً، وإن ما يسري على موقفها من العدوان على قطاع غزة (تمحور حول «حق إسرائيل في الدفاع عن النفس») لا يسري بالضرورة على موقفها من الحرب الشاملة التي يشنها النظام في سورية ضد شعبها. مع ذلك، فهذا لا ينفي السؤال عن إمكان وحتى عن محصلة ما يسمى «القيادة من خلف». إذ لا شك في أن ولاية أوباما الأولى انتهت على عكس ما بدأت به لجهة سياساته الخارجية، وتحديداً منها ما يتعلق بقضايا المنطقة خصوصاً في ظل خطابه الشهير في القاهرة ومحاولته بدء مقاربة مختلفة لهذه القضايا وللصراع العربي – الإسرائيلي، وأن سنواته الأربع الماضية تركزت على السعي لحل مشكلات بلاده الداخلية، الاقتصادية والاجتماعية والمالية، بنتيجة تورطها عسكرياً في العراق وأفغانستان وغيرهما، وأنه سيواصل العمل في السياق ذاته ومن أجل الأهداف إياها في السنوات الأربع المقبلة، لكن السؤال يبقى على حاله: ماذا عما يسميه أوباما نفسه «قيادة» أميركا العالم ويسميه بعض المعلقين في بلاده «القيادة من خلف»؟ يبدو أن مرحلة أميركية جديدة بدأت فعلاً في ولاية أوباما الأولى، وستستمر في ولايته الثانية، قوامها ما كان يطلق عليه غلاة المحافظين الأميركيين صفة «الانعزال» إلى الداخل تحت عناوين مختلفة في مقدمها أن لا حاجة للولايات المتحدة إلى العالم، خصوصاً إلى أزماته ومشكلاته وحروبه، لكن العالم هو الذي يحتاج إليها. وفي الظروف الأميركية الحالية، المالية والاقتصادية والاجتماعية، لم يعد خافياً أن أنظار أوباما اتجهت في الفترة السابقة وتتجه الآن إلى آسيا وما يسمى منطقة الباسيفيك أكثر من أي منطقة أخرى في العالم بما في ذلك الشريك السياسي الأول والأكبر للولايات المتحدة: أوروبا. أما الأسباب فاقتصادية ومالية قبل كل شيء، ومبرراتها الفائض المالي الكبير والطفرة الصناعية الواسعة في دول آسيا، في الوقت الذي تعاني الولاياتالمتحدة من ركود لا يختلف كثيراً في تأثيراته فيها وفي دورها عن الركود الذي أصيبت به في الثلث الأول من القرن الماضي. لهذه الأسباب تتراجع الولاياتالمتحدة، ويتراجع دورها في العالم، إلى «خلف» على رغم بقائها باعتراف العالم كله الدولة العظمى الوحيدة فيه منذ انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي والكتلة الشيوعية في العقد الأخير من القرن العشرين. ولعله من هنا، بدأت تظهر في واشنطن كما في غيرها من عواصم العالم، نظرية «القيادة من خلف» (القيادة الأميركية بالواسطة، عبر دول أخرى) مع ما يرافقها من شكوك وعلامات استفهام حول إمكان نجاحها ونجاح الوسطاء من ناحية ومدى فعالية الأسلوب في معالجة أزمات هذا العالم من ناحية أخرى. وفي ما يخص المنطقة تحديداً، هل تكون المقاربة الجديدة للشأن السوري من جانب كل من فرنسا وبريطانيا، ثم من جانب الاتحاد الأوروبي كله، تجسيداً لهذه النظرية وبالتالي مؤشراً إلى موقف أميركي جديد بدوره لم ترغب إدارة أوباما لأسباب خاصة بها (الحوار مع إيران من جهة ومع روسيا من جهة ثانية) أن تبادر إليه؟ وأيضاً، هل تكون باريس ومعها القاهرة (أعلن أن أوباما أجرى ثلاثة اتصالات بالرئيس المصري محمد مرسي في خلال 24 ساعة) هما اللتان قامتا بالمهمة ولعب الدور الأساس في وضع حد للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وبدء مرحلة جديدة فعلاً؟ أم إن الولاياتالمتحدة هي التي قررت من تلقائها، ولأسبابها الداخلية، «الانعزال» عن العالم الخارجي وشؤونه تاركة لمن يرغب أن يملأ الفراغ في القيادة؟