يدشن الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون ولايته الثانية هذا الأسبوع بزيارة الى لبنان ينوي ان تسجّل له جرأته على التمسك بمبادئه وشجاعته في رفض الانزواء سجيناً للتخويف والتهويل. لن يفعل ذلك بتحدٍّ لأيٍّ كان، ولن يذهب هناك رافعاً شعاراً أو هاتفاً بنفسه زعيماً أو قائداً. بان كي مون لا بد يدرك انه يفتقد صفة «الكاريزما»، ان من ناحية الجاذبية الساحرة للشعوب أو القدرة الخارقة على التواصل مع الناس. لكنه ينظر الى نفسه بأنه رجل مبدأ، صلب المعدن، صبور بعزمه، يكرس نفسه للقيام بالمهام الموكلة اليه، لا يتراجع إذا عقد العزم. إنه ذاهب الى لبنان برسائل الى اللبنانيين وإلى الجار السوري، وإلى المنطقة العربية الأوسع. عنوان رسالته الإقليمية هو أنه عازم على الاستمرار بدعم التحول الديموقراطي في المنطقة العربية مهما انطوى التغيير على مغامرة أو مفاجأة. فهو قرر أن يراهن على اليقظة في المنطقة العربية حتى لو تحوّل ما سمي بالربيع العربي إلى ربيع الإسلاميين. رسالته الى سورية تأتي عبر زيارته المطوّلة نسبياً الى لبنان بعنوان إبراز الثقة بقدرة هذا البلد الهش على التماسك والاستقرار مهما حدث في الجوار السوري. ورسالته الى اللبنانيين بمختلف أطيافهم السياسية هي أولاً أن في هذا البلد الصغير ربما أكبر ورشة للأمم المتحدة، والأمين العام عازم على دعم هذا الاستثمار والوقوف بجانب العاملين الدوليين هناك. وثانياً، ان الحكومة اللبنانية التي يترأسها نجيب ميقاتي عُزِلت دولياً في مطلع عهدها، باعتبارها حكومة «حزب الله»، إلا أنها بتنفيذها التزاماتها نحو المنظمة الدولية وقراراتها، فإنها تستحق أن يدشن الأمين العام ولايته الثانية بزيارة تساهم في فك العزلة عنها إذا ثابرت في تنفيذ القرارات. لبنان محطته الأولى في ولايته الثانية، لكن أهداف وتطلعات بان كي مون أوسع وأكثر. عند بداية ولايته الأولى، وأثناء مرافقته في زيارة الى الشرق الأوسط، أجرت صاحبة هذا المقال مقابلة مع بان كي مون انحصرت في التعرف الى شخصيته من خلالها، فاجأ الكثيرين عندما وصف نفسه في ذلك الحديث بأنه «بيروقراطي»، شارحاً أنه ينصّب على القيام بمهمته ويفصل نفسه حتى عن الأصدقاء، لأنه لا يريد الخلط بين المهام المنوطة بالأمين العام للأمم المتحدة وبين الرجل في المنصب. مع الوقت، نما بان كي مون في منصبه ولم يعد يخشى على المنصب من الرجل. بات مرتاحاً في جلده كأمين عام. البيروقراطي بالأمس تحوّل الى رئيس تنفيذي للمنظمة الدولية. انه يتحدث اليوم بلغة الرؤيوية وليس البيروقراطية وهو عازم على أن يحصد لنفسه إرثاً سياسياً يدخله التاريخ مميزاً. ولقد شاءت الصدف ان تكون المنطقة العربية ساحة له لصياغة هذا الإرث، بدءاً بمبدأ عدم الإفلات من العقاب الذي التزم به عندما تحوّل لبنان الى ورشة دولية في أعقاب اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري. هذا لا يعني ان بان كي مون لا يراقب ببالغ الدقة والحذر مواقف الدول الكبرى، أو انه يغامر بالانفصال عنها بعشوائية. فكل أمين عام للأمم المتحدة يفهم تماماً حساسية علاقاته بالدول الأعضاء في المنظمة الدولية وأهميتها، سيما الدول الأعضاء في مجلس الأمن، وعلى رأسها الدول الخمس الدائمة العضوية. موازين العلاقة بين الدول الخمس تملي الكثير من مواقف الأمين العام لأنه المكلف بتنفيذ قرارات مجلس الأمن أولاً، ولأنه مهم لأي من هذه الدول الخمس التي تود ان يكون معها وليس ضدها، ثانياً. قبل خمس سنوات، عند بدء الولاية الأولى لبان كي مون، كان رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين في عزّه، بالغ الثقة بالنفس، لا يجرؤ أيٌّ كان أن يسائله عما يصمم لمستقبل روسيا ومستقبله فيها. اليوم، يواجه بوتين تحديات عدة، داخلية ودولية، وهو ليس رجل الأمس فوق المساءلة، وإنما يبدو أحياناً متوتراً جداً ويتبنى سياسات عليها أيضاً ملامح التوتر. وسياساته نحو سورية مجرد مثال. قبل ثلاث سنوات، كان الرئيس الأميركي باراك أوباما مدهشاً للعالم أجمع باقتحامه البيت الأبيض ناشطاً اجتماعياً وسياسياً واعداً بالقيادة بصورة سبّاقة ومتعهداً بالتغيير الجذري. اليوم، يبدو أوباما رجلاً اعتيادياً للعالم الذي بهره بالأمس. الأميركيون يحاسبونه ويطالبونه بالقيادة المحلية، أقله كرئيس تنفيذي وليس كناشط سياسي في الولاياتالمتحدة. إنه منصب على التمسك بالكرسي وهو يدخل في منافسة شرسة مع المرشح الجمهوري المتوقع، ميت رومني، الذي يتمتع بخبرة الرئيس التنفيذي ومعدنه الاعتدال. كلاهما يقع بين أنياب التجاذب والتحدي، وإيران في مقدمة إفرازات هذه المعادلة. مثل هذه التطورات المحلية تؤثر جداً في فكر أي أمين عام للأمم المتحدة وفعله، وبان كي مون يفهم جيداً ما تأتي عليه من قيود وفرص في آن، فهو لن يتحدى علناً أميركا أو روسيا ولن يتدخل بينهما. وهو بالغ الحذر عندما يتعلق الأمر بالصين، لأسباب عدة، من بينها خلفيته الآسيوية. أما أوروبا، فإن بان يدرك إصرارها على التمسك بالأممالمتحدة، إذ إنه ما زال لبريطانيا وفرنسا مثلاً موقع النفوذ المميز، نظراً الى عضويتهما الدائمة في مجلس الأمن. لكل هذه الأسباب، لن يكون الأمين العام في منتهى الاستقلالية، لكنه قادر على هامش معيّن من الرؤيوية والقيادة -إذا شاء وإذا سنحت الفرص-. ولقد حدث ان الفرص تسنح الآن بهذا الهامش، وهي آتية من المنطقة العربية. وهو يبدو مقتنعاً بأن «الربيع العربي» أو «اليقظة العربية» أو مسيرة «التغيير الديموقراطي» تستحق الاستثمار في الرؤيوية. وراء هذا الاقتناع تقف احدى «نساء الأمين العام» -كما بات يشار الى النساء القديرات جداً في مناصب وكيل الأمين العام في عهد بان كي مون- الدكتورة ريما خلف الهنيدي، المديرة التنفيذية للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (اسكوا) التي نظمت مؤتمراً دولياً بعنوان «الإصلاح والانتقال الى الديموقراطية» يفتتحه بان في بيروت أثناء زيارته هذا الأسبوع. وريما خلف ليست جديدة على الإصلاح، فهي وراء تقرير «التنمية الإنسانية العربية» الشهير، وهي رائدة في ميادين خلق الفرص للأجيال القادمة والحرية في الوطن العربي. آراؤها أثّرت في فكر بان كي مون، وهي في طليعة مستشاريه للشؤون العربية. إطلالة بان كي مون على ولايته الثانية عبر مؤتمر «الإصلاح والانتقال الى الديموقراطية» هي رسالة واضحة الى عزمه على الاستمرار في دعم الإصلاح والعملية الانتقالية في المنطقة العربية كأولوية. وهو يقول: هكذا سأبني إرثي السياسي. سورية اليوم في طليعة العملية الانتقالية. انها ورشة عربية دولية، بسبب التعاون والتداخل بين جهود جامعة الدول العربية وأمينها العام نبيل العربي، وبين مجلس الأمن الدولي وجهود بان كي مون. مشاركة الأمين العام في مؤتمر الإصلاح والانتقال الى الديموقراطية من العاصمة اللبنانية ينطوي على رسالة الى الجارة السورية بأن قطار الانتقال الى الديموقراطية في جوارها، وآتٍ اليها، وبغض النظر عن أحداث سورية، فللأمين العام ثقة بقدرة لبنان على أن يسير إلى الأمام بشكل طبيعي، ليس كرهينة سورية. على الصعيد اللبناني، ما يحمله بان كي مون هو رسالة ثقة بالبلد الذي يقال عنه دوماً إنه ليس جاهزاً لزيارة شخصية دولية بسبب الاضطراب أو بسبب عجز حكومته. بان لم يرَ سبباً لعدم قيامه بهذه الزيارة بل إنها من أطول الزيارات التي يقوم بها تقليدياً، إذ سيمكث في لبنان حوالى ثلاثة أيام. وهو بذلك يقول: هناك استقرار نسبي، والحكومة عاملة وليست عاجزة، والأممالمتحدة مثابرة في مهامها في هذا البلد الواقع في عهدة «العناية الفائقة» من قبل المنظمة الدولية، بحسب تعبير مسؤول في الأممالمتحدة. فللأمم المتحدة أكبر عملياتها في هذا البلد الصغير، من القوات الدولية المعززة في الجنوب (يونيفيل) الى الوكالة الدولية لغوث اللاجئين الفلسطينيين (اونروا)، الى تواجد ممثلين عن جميع الوكالات الدولية، الى جانب المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، والقرارات الدولية الصادرة عن مجلس الأمن الداعمة لبسط الجيش اللبناني وحده سلطته على كامل أراضي لبنان وتجريد جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية من السلاح. بان كي مون سيتوجه الى العاملين في «يونيفيل» ليدعم معنوياتهم، وسيتمسك بكل قرار لمجلس الأمن مهما اعتبرته أوساط لبنانية عدائياً. انه يصطحب معه فريقه برسالة واضحة للجميع، بأنه رجل مبدأ مكلف بولاية واضحة، ملتزم بتنفيذ الواجبات المنوطة به. سيُطلَب منه الإدلاء بإدانات أقوى للخروقات الإسرائيلية للأجواء اللبنانية، واستمرار إسرائيل في الاستيطان غير القانوني وانتهاكاتها لحقوق الإنسان الفلسطيني، بدءاً بالاحتلال وما ينطوي عليه من تقويض للمبادئ الأساسية لحقوق الإنسان. وسيُقال له إنه فشل في إجبار إسرائيل على تنفيذ التزاماتها الدولية بموجب القرار 1701، مثل الانسحاب من قرية الغجر، وإنه يتجنب التنديد بها فيما لا يتردد بالتنديد بمن ينتهك القرارات الدولية من العرب. وسيكون صعباً على بان كي مون الدفاع عن نفسه طالما إسرائيل تزجّه في زاوية الإحراج وطالما الدول الغربية عازمة على إعفاء إسرائيل من المحاسبة. في الوقت ذاته، رسالة بان كي مون الأساسية، رغم التهديدات من أوساط لبنانية، هي انه ليس عدواً للبنان وانما صديق له. إنه يؤمن بفك عزلة الحكومة اللبنانية، ويثني على تنفيذ التزاماتها الدولية. انه لا يتراجع ولا يخاف، ويراهن على حكمة القيادات السياسية مهما رافق زيارته من تهديد وتهويل. أول زيارة لبان كي مون في ولايته الأولى كانت الى باريس للمشاركة في مؤتمر لدعم لبنان. أول زيارة له في ولايته الثانية الى البلد ذاته لها رسالة مهمة تعكس الأهمية التي يوليها للبنان. فهو يتأبط الشرعية الدولية ورهانه على المنطقة العربية ويطلق ولايته الثانية وإرثه السياسي في زيارة كان في إمكانه تفاديها، لو شاء.