تولّت أقلام كثيرة مقارنة «الربيع العربيّ» بثورات أوروبا الوسطى والشرقيّة أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات. وكان واضحاً التركيز على القاسم المشترك المتمثّل بالحرّيّة والطلب عليها، وبرفض الخضوع لأنظمة حزب واحد مغلقة. مع هذا كان، ولا يزال، واضحاً أنّ الطريق الالتفافيّ إلى الديموقراطيّة، أقلّه نظريّاً، أقصر كثيراً في أوروبا منه هنا. فالليبراليّة والعلمانيّة والفرديّة أقوى هناك بلا قياس، كما أنّ الدين خضع لجرعات من الإصلاح ألجأته إلى التكيّف مع المعاصرة ممّا لم يعرفه الدين عندنا. وهذا وذاك لا ينفصلان عن صلة تاريخيّة بين المراكز الأوروبيّة الوسطى الأكثر تقدّماً، أي ألمانيا وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا السابقة، وبين أوروبا الغربيّة و «الغرب» تالياً. وقد ترتّب على تلك الصلة أنّ الديموقراطيّة في تلك البلدان صارت مرادفة للأوروبيّة وللاندماج فيها من دون عوائق غالباً ما ارتبطت بالدور الروسيّ. وبدوره، فهذا ما لا يصحّ في منطقتنا حيث التحفّظات التاريخيّة والدينيّة الكثيرة على أوروبا والغرب «الصليبيّين» و «الاستعماريّين» و «حماة إسرائيل». إلى ذلك، هناك الزمن السياسيّ ومفاعيله. فالانتفاضات الأوروبيّة توازت مع تصدّع الدولة التوتاليتاريّة الأقوى في العالم بقدر ما عزّزت ذاك التصدّع. وكان هذا البُعد الكونيّ للطلب على الديموقراطيّة قد انفجر في الصين نفسها، وهي الدولة التوتاليتاريّة الثانية قوّةً في العالم، على ما دلّت ساحة تيان آن مين وقمعها الشرس. لكنّ مثل هذا البُعد الكونيّ ليس متوافراً الآن بالقدر نفسه. صحيح أنّ موجة الطلب على الديموقراطيّة والرفض للطغيان لم تتوقّف، بدليل العزلة التي تحيط نظاماً كالنظام الكوريّ الشماليّ الجامع بين الفضيحة والمهزلة. غير أنّ تلك الموجة لم تعد، أقلّه منذ 2001، تلقى الإجماع الذي كان لها في التسعينات، حين اعتبر فوكوياما أنّ الانتصار النهائيّ قد تحقّق وأنّ العالم ولج «نهاية التاريخ». فجريمة 11 أيلول (سبتمبر) هزّت فرضيّة الفردوس الديموقراطيّ الكامل الأمان الذي يشقّ طريقه من دون أعداء أو تناقضات. وأهمّ من ذلك، على هذا الصعيد، ما فعلته الأزمة الاقتصاديّة التي اندلعت في 2008 ولم تعثر على علاجها بعد. فبسببها ظهر نوع من البرم بالديموقراطيّة في مركزيها الأميركيّ والأوروبيّ عبّرت عنه جزئيّاً حركة «احتلّوا وول ستريت» المطلبيّة. ذاك أنّ منطقة اليورو تتصدّع وتسجّل نسب نموّ سلبيّ، فيما علامات الاستفهام تحيط بعملة اليورو ذاتها. أمّا في الولايات المتّحدة فيتبدّى كم أنّ نظام الحزبين ولعبته يعوقان التوصّل إلى معالجة الأزمة الاقتصاديّة ويرفعان كلفتها. ومع تقدّم التيّارات الشعبويّة، العنصريّة وشبه العنصريّة، المناهضة للأجانب عموماً، وللعمّال المهاجرين منهم خصوصاً، يفقد المجتمع الديموقراطيّ والليبراليّ بعض جاذبيّته الكونيّة. في المقابل، وبسبب ذاك البرم الديموقراطيّ تحت وطأة الأزمة الاقتصاديّة، ينشأ لون من التواطؤ الشعبويّ الواسع نسبيّاً مع نظام كالنظام الصينيّ ما دام يحقّق نسباً من النموّ الاقتصاديّ غير مسبوقة، بينما يُسجّل ارتفاع في الأصوات الآسيويّة التي تدعو إلى استعادة «القيم الآسيويّة» ضدّاً على القيم الكونيّة للديموقراطيّة الليبراليّة، كما تركّز على «تراجع الغرب» وأحياناً «انحطاطه». وهذه، عموماً، ميول لا تعمّر طويلاً، سبق أن ظهرت مثيلات لها إبّان الأزمات الاقتصاديّة العالميّة، ولا تزال النازيّة أهمّها وأخطرها. غير أنّ الميول المذكورة تشكّل، في هذه الغضون، بيئة كونيّة غير مشجّعة بما يكفي للصرخة الديموقراطيّة التي أطلقتها الانتفاضات العربيّة. وأغلب الظنّ أنّ هذا المستجدّ أحد الأسباب الكثيرة وراء انبعاث الدعوة الإسلاميّة بوصفها الطريق الالتفافيّة الطويلة التي تفصل حاضرنا عن المستقبل.