يصعب أن تكون «الأمّة»(؟) مهدّدة بالفناء، يحاصرها تجزّؤ بلدانها واحتمال الفتن المذهبيّة، وأن تكون، في الوقت نفسه، ظافرة منصورة، تعيش فجر المقاومات التي تغيّر وجه التاريخ. هذان المعنيان لا يستقيم دمجهما في نصّ واحد، وأحياناً في عبارة واحدة. أغلب الظنّ أنّ العبارة الأولى صحيحة وأنّ العبارة الثانية خاطئة، لا بل انّ المقاومات السبب الأهمّ، وليست السبب الأوحد، وراء المحنة المطنطنة التي تعيشها «الأمّة» راهناً. وحين يقال «مقاومة»، في هذا المعرض، لا يُقصد العمل العسكريّ فحسب، بل لا يُقصد العمل العسكريّ أساساً: ذاك أنّ هذا العمل لم يعد قائماً، أكان في غزّة أم في لبنان بعد القرار 1701. أمّا في العراق، فلم يبق من نشاطها العسكريّ إلاّ العبوات وأعمال التفجير الطائفيّة. المقصود، في المقابل، طريقة في النظر وفي العمل تسعى إلى سوس مجتمعات متعدّدة بأفق أحاديّ. وهي، في هذا، تنجز هدفين على الطريق الموصل إلى الكارثة: - أوّلهما، تسلّح طرف أهليّ بعينه، بذريعة أنّ من يتسلّح... مقاومة. وتتمّة هذا السلوك تجريم التسلّح إذا ما لجأت إليه الأطراف الأخرى لأنّها ليست... مقاومة. وهذا ما يرقى إلى تأسيس للغلبة الأهليّة الصلبة التي يقيم فيها استبداد صلب. - والثاني، إضفاء القداسة على السلاح المحمول وعلى حامليه، ما يعني، بالنظر إلى تركيب المجتمعات المعنيّة، إحاطة الجماعات الأهليّة التي لا يُسمح لها بالتسلّح، بالريبة والشكّ، إن لم يكن بالتخوين. وغنيّ عن القول إنّ نظاماً هذه طبيعته هو أقرب الطرق إلى هلهلة الأنسجة الوطنيّة لتلك البلدان، ومن ثمّ إلى تفجيرها. فالتمييز السلاحيّ، وما يستجرّه من تمييز قيميّ ومراتبيّ، يفعلان هنا ما لا يستطيع أن يفعله نظام اقتصاديّ أو اجتماعيّ جائر أو فاسد. ولا نأتي بجديد حين نقول إنّ فعاليّة التمييز العنصريّ الذي عرفته جنوب أفريقيا السابقة فاقت كثيراً فعاليّة نظامها الاقتصاديّ أو تخلّف طبقتها السياسيّة. بل إنّ المآخذ الطبقيّة والسياسيّة ذاتها كانت تتقدّم كعناصر في لوحة التمييز العنصريّ. لقد طفح العقدان الماضيان، خصوصاً بسبب سقوط أنظمة الحزب الواحد في أوروبا الوسطى والشرقيّة، بالكلام عن «التعدّد» وعن «الآخر». حتّى الأحزاب التوتاليتاريّة وشبه التوتاليتاريّة استدخلت هذه المفاهيم في لغتها السياسيّة والدعويّة، وبعضها أقدم على إحداث تغيير فعليّ في القول كما في السلوك: يصحّ هذا خصوصاً في الشيوعيّين الغربيّين الذين انعطفوا إلى اشتراكيّة ديموقراطيّة ما. بيد أنّ الذين يمارسون التمييز، في لبنان وبلدان عربيّة أخرى، هم آخر من يمكن تصديق مزاعمهم التعدّديّة. ذاك أنّ التمييز، وهو تمييز حيال «الآخر»، لا يتعايش مع قبول «الآخر» والإقرار بمشاركته «التعدّد»، فكيف حين تُضفى على التمييز صرامة القداسة وثقل وطأتها؟. وبالمعنى ذاته، لا يستقيم زعم الوطنيّة مع هذا التمييز، بمقدّماته الأهليّة وبصيغه العصبيّة. ف «الوطن» ينقسم، والحال هذه، إلى مواطنين ورعايا: الأوّلين يمنحون الأمان للأخيرين ويمثّلونهم ويمثّلون مصالحهم غصباً عنهم. وهم، بالمنطق نفسه، وللسبب نفسه، قد ينتزعون منهم الأمان وينزعون عنهم المصالح. وهي، في آخر المطاف، علاقة ذمّيّة مؤدلجة على نحو لم تملك السلطنة العثمانيّة عدّته النظريّة الحديثة المسمّاة «قضيّة» و»نضالاً» و»معركة مصير»، ودائماً عبارةً فقيرة هي إلى الشعار أقرب.