عقد الكثير من المقارنات بين أحداث «الربيع العربي» التي بدأت بالثورة التونسية وبين أحداث أخرى في التاريخ المعاصر في مناطق أخرى من العالم. وكان من أبرز المقارنات التي قفزت إلى الأذهان تلك التي جرت بين «الربيع العربي» وبين تحولات بلدان شرق ووسط أوروبا التي تحولت، أواخر الثمانينات ومطلع التسعينات، من نظم شمولية على النمط الستاليني إلى نظم ديموقراطية ليبرالية على النسق الغربي ملتزمة باقتصاديات السوق. هذه المقارنة جاءت طبيعية ومتوقعة في ضوء الكثير من أوجه التشابه، ولكن بالقدر نفسه من الثقة يمكن القول بوجود أوجه اختلاف، قد تتفاوت من حالة إلى أخرى. فتحولات أوروبا الشرقية والوسطى ارتبطت في شكل عضوي بتراجع قبضة «الأخ الأكبر» (الاتحاد السوفياتي) حينذاك في ظل سياسات «البريسترويكا» و «الغلاسنوست» التي اتبعها آخر الزعماء السوفيات غورباتشوف، وهو ما لم يحدث في «الربيع العربي»، حيث بدأت الثورات والانتفاضات مما يمكن اعتباره إحدى الحلقات الأضعف ضمن النظم العربية وهو النظام التونسي السابق، وذلك من دون الارتباط بانهيار أو انسحاب دولة كبرى مسيطرة أو مؤثرة. كما أن «الربيع العربي» يحدث في دول متباينة في طبيعة نظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ما بين اليسار واليمين، ولكن الطابع الشمولي أو السلطوي أو شبه السلطوي جمع بينها، بخلاف الدول الشيوعية السابقة التي اتسمت إلى حد كبير بتجانس الطبيعة الأيديولوجية لنظمها حينذاك، على رغم التفاوت بينها في مدى تشديد قبضة سلطات الدولة على حياة المواطنين. كذلك كان الدعم الغربي لتحولات أوروبا الشرقية ضخماً وغير محدود سياسياً واقتصادياً، سواء من جانب دول الاتحاد الأوروبي (غرب أوروبا) وبقية أطراف التحالف الغربي كالولايات المتحدة وكندا وأستراليا واليابان وغيرها، أو عبر مؤسسات متعددة الأطراف كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي للإنشاء والتعمير وبرنامج الأممالمتحدة للتنمية، كما أنشئت مؤسسات وأطر جديدة خصيصاً لدعم هذه التحولات كان في مقدمها البنك الأوروبي لإعادة البناء والتنمية. هكذا، تم ضخ بلايين الدولارات كمنح أو قروض بشروط ميسرة وتفضيلية وتدفقت مئات بلايين أخرى من الاستثمارات العامة والخاصة وضمانات القروض لضمان إنهاضها اقتصادياً وعدم انهيارها أو دخولها في الفوضى أو عودة القوى اليسارية للحكم مجدداً استغلالاً لحالة فقر أو إفقار. ولكن ما تقدم لم يتحقق في حالة «الربيع العربي»، أو على الأقل حتى الآن، وعلى رغم الوعود الوردية التي أطلقتها الدول الغربية والمحافل والمؤسسات والمنظمات المتعددة الأطراف المنبثقة منها أو التي تأتمر بأمرها إبان توهج «الربيع العربي» من تقديم دعم بالمليارات من الدولارات للشعوب العربية، ليس فقط تلك التي مرت بثورات وانتفاضات بل أيضاً تلك التي رأى الغرب أن حكامها يقومون بعمليات إصلاح تتجاوب مع تطلعات شعوبها والتي يصب الاستقرار فيها تقليدياً في خانة الحفاظ على المصالح الغربية في المنطقة وحمايتها. واستمرت هذه الوعود حتى قمة مجموعة الدول الثماني الصناعية التي استضافتها فرنسا في حزيران (يونيو) 2011 والتي صدر عنها ما عرف ب «شراكة دوفيل» بين الدول الثماني والدول التي مرت بالتحولات الثورية أو الإصلاحية ومن ينضم لها مستقبلاً من دول عربية أخرى، حيث رؤي من خلال هذه المبادرة تجميع الكثير من المبادرات الأخرى المتنوعة التي كانت قد صدرت في شكل ثنائي أو جماعي عن عدد من الأطراف الغربية والخليجية على مدى الشهور السابقة على قمة دوفيل، بخاصة من جانب الاتحاد الأوروبي ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي والاتحاد من أجل المتوسط ومؤسسات بريتون وودز وحلف شمال الأطلسي (بخاصة عبر آلية الحوار الأطلسي/ المتوسطي). إلا أن على أرض الواقع، فإن شيئاً جدياً لم يتحقق حتى هذه اللحظة وبدا الحديث عن أن الغرب يتريث حتى يرى ما سينتج عن تحولات الوطن العربي وما ستفرزه في الواقع من نظم سياسية وما تعكسه من أطروحات فكرية، خصوصاً في ما يتعلق بمواقف هذه النظم الجديدة تجاه الغرب، وكذلك يربط بين ذلك والمواقف المتوقعة لهذه النظم الجديدة تجاه إسرائيل أيضاً، وأيضاً ترقب توجهات هذه النظم المقبلة إزاء مسائل باتت تقليدياً تسبب حساسيات للأطراف الغربية، بما في ذلك بسبب المعادلات الفكرية والسياسية والثقافية داخل هذه الدول ذاتها من حيث مواقف الرأي العام وجماعات الضغط الفاعلة بهذه المجتمعات ومواقف الأجهزة الإعلامية والمؤسسات الدينية وغير ذلك، ويدخل في هذا الإطار موضوعات ما بات يعرف ب «حماية حقوق الأقليات» والمرأة وحماية حقوق الإنسان في شكل عام والالتزام بمعايير الديموقراطية مثل التداول السلمي للسلطة وسيادة القانون، وذلك ضمن معايير «انتظار» أخرى. ولا يعني ذلك القول بأن هذه الأمور التي ينتظر الغرب توافرها قبل التقديم الفعلي للمساعدات كلها سيئة أو حتى سلبية، بل هناك منها ما تتفق عليه القوى الفكرية والسياسية والاجتماعية، أو غالبيتها على الأقل، في بلدان الربيع العربي، على أن يكون تحقيق ذلك مدفوعاً من داخل مجتمعات هذه الدول وبفهمها لها وليس خضوعاً لإملاء الخارج أو الانصياع لضغوطه وصياغاته، بينما هناك منها ما يفتح الباب لتساؤلات ولكثير من علامات الاستفهام حول صدق النوايا من جانب الأطراف المانحة وحقيقة مقاصدها، إضافة إلى المدى الحقيقي الذي ستذهب فيه القوى الغربية لدعم تحولات الربيع العربي، ليس فقط بالتركيز على المجالات الخاصة بالتحولات السياسية، التي يبدي الغرب دائماً تفضيله لتخصيص الكثير من الموارد لها، بل الأهم وهو تخصيص المقدار الأكبر من الموارد لمتطلبات النهوض الاقتصادي القائم على أسس حقيقية ومعالجة جوانب الخلل الهيكلي الاجتماعي بهدف المساعدة في جهود تحقيق العدالة الاجتماعية وتقديم الخدمات الأساسية للمواطنين بمقابل في حدود إمكانياتهم وعلى مستوى يليق بآدمية هؤلاء المواطنين. ومن المهم للغرب اجتياز هذا الاختبار بنجاح أمام الشعوب العربية لأنه قد لا تكون هناك فرص أخرى كثيرة في المستقبل تمنحها هذه الشعوب للغرب لإثبات حسن نواياه وحرصه على استقرار حقيقي قائم على التوازن وعلى احتياجات الشعوب العربية ومتطلباتها، وحتى يتجنب من جديد اتهامات له بالانتقائية وازدواجية المعايير بين تحولات أوروبا الشرقية وتحولات الوطن العربي. * كاتب مصري