كتاب «المؤمن الصادق... أفكار حول طبيعة الحركات الجماهيرية» للباحث الاجتماعي الأميركي إيريك هوفر الذي نشر سنة 1951، نقله الأديب والوزير الراحل غازي القصيبي إلى العربية ونشر العام الماضي (دار العبيكان). وهو لم يحظ بقدر كبير من الانتشار بداية، لكنه قفز إلى قائمة أفضل الكتب مبيعاً، عندما استشهد به الرئيس الأميركي ايزنهاور في إحدى ندواته التلفزيونية. والكتاب يكثّف الأضواء على عدد من النقاط التي تتعلق بمرتكزات الإرهاب، وفيه إجابة عن سؤال مهم هو: لماذا يصبح الإرهابي إرهابياً؟ يقول القصيبي: «رجعت إلى عدد من المصادر، وبحثت الأمر مع عدد من الخبراء، واتضح لي أنه على رغم وجود كم هائل من المعلومات عن الإرهاب، تنظيماته وقادته وأساليبه وأدبياته وتمويله، إلا أنه لا توجد كتابات تضيء عقل الإرهابي من الداخل، وتتيح لنا فرصة التعرّف إلى هذا العالم العجيب المخيف.. ثم شاءت المصادفة أن أتعرف إلى هذا الكتاب، ففوجئت بأنني عثرت، أخيراً، على ضالتي، وحيث لم أتوقع: في كتاب لم ترد فيه كلمة الإرهاب، ونشر في زمن لم تكن فيه ظاهرة الإرهاب معروفة». ويعتبر القصيبي أن الإرهاب وليد التطرّف وهذا الكتاب معني بالتطرّف: جذوره وبذوره. فالمعادلة التي يعرضها الكاتب بسيطة ومقنعة في الوقت ذاته، وهي تبدأ بالعقل المحبط. حين يرى الإنسان عيباً في كل ما حوله ومن حوله، وينسب مشاكله إلى فساد عالمه، ويتوق إلى التخلّص من نفسه المحبطة وصهرها في كيان نقي جديد. وهنا يجيء دور الجماعة الثورية الراديكالية التي تستغل ما ينوء به المحبط من مرارة وكراهية وحقد، فتسمعه ما يشتهي أن يسمع، وتتعاطف مع ظلاماته، وتقوده إلى الكيان الجديد الذي طالما حنّ إلى الانصهار فيه. من هذا اللقاء الحاسم بين عقلية الفرد المحبط الضائع وبين عقلية القائد الإجرامي ينشأ التطرف، ومن التطرف ينشأ الإرهاب. إذن، الكتاب يعرض الخصائص التي تشترك فيها الحركات الجماهيرية، سواء كانت دينية أم اجتماعية أم قومية، على رغم الاختلافات في ما بينها، فالحركات الجماهيرية تولّد في نفوس أتباعها استعداداً للموت وانحيازاً للعمل الجماعي، وكلها تولّد الحماسة والأمل للكراهية وعدم التسامح، وكلها قادرة على تفجير طاقات قوية من الحراك في بعض مناحي الحياة، وكلها تتطلّب من أتباعها الإيمان الأعمى والولاء المطلق، وكلها تستقطب أتباعها من النماذج البشرية نفسها، وتستميل الأنماط والعقول نفسها. ويؤكد هوفر أن الكتاب يتعامل مع خصائص تشترك فيها الحركات الجماهيرية كافة، سواء كانت دينية أم اجتماعية أم قومية. فكل هذه الحركات متماثلة، وتشترك في صفات رئيسة تؤسس بينها نوعاً من الشبه العائلي. والتطرف ذو طبيعة واحدة وثمة درجة من التماثل بين الجماعات الإرهابية تتجلّى في إخلاصها للحركة، وفي إيمانها، وفي سعيها إلى السلطة، وفي وحدتها، وفي استعدادها للتضحية بالنفس. الحركة الجماهيرية يتناول الكتاب المرحلة النشطة الدعوية إلى الحركة الجماهيرية. وتتميّز هذه المرحلة، أساساً، بسيطرة المؤمن الصادق، الرجل صاحب الإيمان المتطرف المستعد للتضحية بنفسه في سبيل القضية المقدسة. كما يحاول تحليل البذور والجذور التي تغذي طبيعة هذا الرجل، مستعيناً في تحليله بفرضية محددة، انطلاقاً من الحقيقة التي تقول: إن المحبطين يشكلّون غالبية الأتباع الجدد في الحركات الجماهيرية، وإنهم ينضمون بإرادتهم الحرة. فيفترض هوفر أن الإحباط في حد ذاته، ومن دون دعوة أو محاولة للاستقطاب من الخارج، يكفي لتوليد معظم خصائص المؤمن الصادق. والأسلوب الفاعل في استقطاب الأتباع للحركة يعتمد أساساً على تشجيع النزاعات والاتجاهات التي تملأ عقل المحبط. يقول المؤلف إن الذين ينضمون إلى حركة ثورية صاعدة أو حركة دينية أو قومية متطرفة يتطلّعون إلى تغيير مفاجئ كبير في أوضاعهم المعيشية، فكلها حركات من وسائل التغيير، وعندما تتقدم فرص تطوير الذات، أو لا يسمح لها بالعمل كقوة محفّزة يصبح من الضروري إيجاد مصادر بديلة للحماسة، وهنا تكون الحركات الجماهيرية (دينية أو ثورية أو قومية) عاملاً لتوليد الحماسة العامة. ويرى هوفر أنه تكمن فينا جميعاً نزعة إلى البحث خارج أنفسنا عن العوامل التي تصوغ حياتنا، حتى عندما يكون وضعنا نتيجة عوامل داخلية، كقدرتنا أو شخصيتنا أو مظهرنا أو صحتنا. ويستشهد بقول للفيلسوف الأميركي هنري ديفيد ثورو (1817 - 1862): «عندما يشكو المرء شيئاً يحول بينه وبين القيام بواجباته حتى عندما يكون ألماً في أمعائه .. فإنه يبادر إلى محاولة إصلاح العالم». وقد يبدو مفهوماً في رأي المؤلف أن الفاشلين ينزعون إلى تحميل العالم جريرة فشلهم، ولكنه يلاحظ أيضاً أن الناجحين أيضاً يؤمنون بأن نجاحهم جاء بسبب الحظ السعيد، ذلك أنهم ليسوا متأكدين من معرفتهم بأسباب نجاحهم. وهكذا فإن الرغبة في التغيير والرغبة في مقاومة التغيير تنبعان من المصدر نفسه: الإيمان بتأثير العوامل الخارجية. ويستدرك هوفر بأن عدم الرضا في حد ذاته لا يخلق دافعاً للرغبة في التغيير، ولكن يجب أن تتضافر معه عوامل أخرى، أحدها هو الإحساس بالقوة، فالذين يخافون من محيطهم لا يفكرون في التغيير مهما كان وضعهم بائساً. أما الأشخاص الذين يندفعون لإحداث تغييرات واسعة فإنهم يشعرون بأنهم يملكون قوة لا تقهر. وامتلاك القوة لا يكفي للتغيير، ولكن لا بدّ من الإيمان المطلق بالمستقبل، وعندما يغيب هذا الإيمان تصبح القوة داعمة للأوضاع القائمة ومناهضة للتغيير. فالذين يشعرون بالتذمر من غير أن يكونوا فقراء فقراً مدقعاً وأن يكون لديهم شعور باعتناقهم العقيدة الصحيحة أو اتباع الزعيم الملهم أو اعتناق أساليب جديدة في العمل الثوري سيصبحون قوة لا تقهر، ويجب أن تكون لديهم تطلّعات جامحة إلى المنجزات التي ستأتي مع المستقبل، وفي النهاية يجب أن يكونوا جاهلين جهلاً تاماً بالعقبات التي ستعترض طريقهم. يلاحظ هوفر أن الحركة الجماهيرية وحيويتها تعتمدان على قدرتها على تلبية رغبة أتباعها اليائسين في محو ذواتهم، وعندما تبدأ حركة جماهيرية في اجتذاب أناس لا تهمهم سوى مصالحهم الذاتية فمعنى هذا أنها لم تعد معنية بإيجاد عالم جديد، بل بالحفاظ على الأوضاع الراهنة وحمايتها. يقول قائد إحدى الحركات الجماهيرية المتطرفة: «كلما زادت الوظائف والمناصب التي تقدمها الحركة انخفض مستوى الأتباع الذين ينضمون إليها، وعندما يحدث هذا تكون انتهت». إن الإيمان بقضية «مقدسة» هو محاولة للتعويض عن الإيمان الذي فقدناه بأنفسنا، وكلما استحال على الإنسان أن يدعي التفوّق لنفسه كان أسهل عليه أن يدعي التفوّق لأمته أو دينه أو عرقه أو قضيته المقدسة، وينزع الناس إلى الاهتمام بشؤونهم الخاصة عندما تكون جديرة بالاهتمام، وعندما لا يكون لديهم شأن خاص حقيقي يهتمون بشؤون الآخرين الخاصة، ويعبّرون عن اهتمامهم هذا بالغيبة والتجسس والفضول. طوق النجاة والاعتقاد بالواجب المقدس تجاه الآخرين كثيراً ما يكون طوق النجاة لإنقاذ الذات من الغرق، وعندما نمد يدنا نحو الآخرين فنحن في حقيقة الأمر نبحث عن يد تنتشلنا، وما يجذب الناس إلى حركة جماهيرية هو أنها تقدم بديلاً للأمل الفردي الخائب. وعندما يصبح الناس جاهزين للانضمام إلى حركة جماهيرية فإنهم - في اعتقاد المؤلف - يصبحون عادة جاهزين للالتحاق بأية حركة فاعلة، ويبدو من السهل على الحركات الجماهيرية أن تستقطب أتباع حركات أخرى تبدو مختلفة عنها أو متناقضة معها، فاليساريون المتطرفون يتحوّلون إلى يمينيين متطرفين، والعكس صحيح. فكل الحركات الجماهيرية متنافسة في ما بينها، ومغنم واحدة منها لا بد من أن يكون مغرم الأخرى، وبوسع الحركة أن تحوّل نفسها بسهولة إلى حركة أخرى، فيمكن للحركة الدينية أن تتحوّل إلى ثورة اجتماعية أو حركة قومية، كما أنه يمكن للحركة الثورية الاجتماعية أن تتحوّل إلى قومية متطرفة أو إلى حركة دينية، ويمكن للحركة القومية أن تتحوّل إلى ثورة اجتماعية أو إلى حركة دينية. وكانت القومية اليابانية المتطرفة ذات طابع ديني، وكان لحركات الإصلاح البروتستانتي جانب ثوري عبّر عن نفسه في حركات تمرد الفلاحين، وكان لها أيضاً جانب قومي، وتمثل الصهيونية حركة قومية واجتماعية وحركة دينية أيضاً. وكثيراً ما يكون السبيل إلى إيقاف حركة جماهيرية هو إيجاد حركة بديلة، أو الهجرة، فثمة شبه كبير بين أتباع الحركات الجماهيرية والراغبين في الهجرة، وهكذا هاجرت الجماعات البروتستانتية من أوروبا إلى القارة الأميركية.