اليوم ونحن نودع راحلاً كبيراً آخر تفاجئنا المصيبة كما اعتادت المصائب وكما اعتدنا الاستغراب، خاطفة هي وغير مهيئين نحن، تماماً كما قال المتنبي: كأن الموت لم يفجع بنفس/ ولم يخطر لمخلوق ببال. عرفت عبدالكريم الجهيمان في ثلاث محطات مهمة بالنسبة لي: عرفته وأنا تلميذ في الابتدائية أقرأ على أقراني من الصغار بعضاً من الأمثال الشعبية في كتابه الشهير. ثم عرفته وقد دخلت الجامعة، وكان يقطن مع أسرته غير بعيد عن كلية الآداب في الملز التي كانت شمال شرقي الرياض آنذاك. وأخيراً عرفته وأنا أحاول التعرف على ملامح الثقافة المحلية التي كان الجهيمان مشاركاً فذاً في حفظها وصياغة المعرفة بها. في المحطات الثلاث كانت ثمة حميمية تخطو بي عبر الصفحات وتلج أبواب المكتبات والمنازل، لتريني رجلاً عملاقاً في عطائه الذي كان ينبلج في الوعي تدريجياً فتتسع مكانته لدي كما لدى الآخرين بسعة المعرفة به وعمق الإدراك لقيمته الإنسانية والثقافية. حين تصفحت كتاب «من أمثالنا الشعبية» كنت أضحك مع بقية الصغار بكركرات لا تخلو من مكر يعلن انقضاء البراءة الأولى. كنت أريهم أمثالاً قرأتها، وكنت في الخامسة الابتدائية، ودهشت كثيراً بل استغربت أن تكتب لسببين: جرأتها التي تحمل جرأة الثقافة الشعبية وصراحتها فيما يخص أمور الجنس والعلاقات بين الناس إذ تسمي الأشياء بأسمائها، ثم جرأة مدونها الذي لم يتردد في سعيه لحفظ «أمثالنا» في كتابة العامية. وكانت هذه العامية مضحكة وغريبة بالنسبة إلينا، كما لو كانت الكتابة كتابة مضادة لما نتعلمه في المدرسة، كتابة لا تخجل من هوية تواريها كتب المدرسة بفصاحتها وانتقائيتها وتناقضها مع إيقاع الحياة اليومية ببساطتها وصراحتها الصاخبة. كان الجهيمان يمنحنا درساً ثقافياً يوسع مداركنا لكن على النحو الذي لم ندركه، أو لم أدركه شخصياً إلا فيما بعد، حين صارت الثقافة الشعبية مكوناً أساسياً بالنسبة لي وميداناً للتعرف والبحث أفتن به كما أفتن بغيره من ميادين الثقافة، بل ربما بحميمية أكبر. كان الجهيمان أستاذاً مبكراً لي ولغيري في طريق استهجنه الكثيرون وما زالوا، لا سيما حين تبين أن اهتمامه بالثقافة الشعبية يتجاوز الأمثال إلى الحكايات. عرفت فيما بعد أن عبدالكريم الجهيمان ليس مجرد مدون أو جامع للموروث الشعبي، وإنما رجل قلم أقرب إلى السيف أو البندقية في صدقه وجرأته وحبه لوطنه. عرفت الجهيمان الكاتب في صحف مبكرة وحصلت على كتب تضم تلك المقالات التي فاتتني قراءتها لفارق السن. وكانت مرحلة التعرف تلك هي مرحلة الدراسة الثانوية ثم الجامعية التي أتيح لي فيها أن ألتقي الرجل وأدخل بيته صديقاً لبعض أبنائه. كان بيتاً عامراً بالكتب والثقافة وأذكر أنني سألته عن لوحة علقت تقول «أنا؟ الناس» فأخبرني أنها تعني أن الفرد لا معنى له من دون الآخرين، ففسر لي ذلك حبه لخدمة ثقافته ووطنه. تلك كانت المحطة الثانية في علاقتي بالراحل الكبير. ما تلاها كانت علاقتي به باحثاً يحاول السير على خطاه في دراسة الموروث الشعبي والكتابة عنه، فاتضح لي أنه رائد مبكر لما أسماه أستاذي الآخر، عبدالله نور رحمه الله، «ثقافة الصحراء» الذي التقطته وسرت به في طريق آخر كما أظن. وما أظنني الآن إلا رجلاً يحاول الإفادة المرة تلو الأخرى من منجز عبدالكريم الجهيمان، الرجل الذي أتمنى رؤية اسمه لا على شارع في الرياض فحسب وإنما على مركز أبحاث للثقافة الشعبية أو الموروث الشعبي: «مركز عبدالكريم الجهيمان للموروث الشعبي»، مركز يضم موروثه هو إلى جانب الموروث الذي كان رائداً في العناية به، رحمه الله رحمة واسعة.