أكد مثقفون وأدباء الدور التنويري الذي لعبه الراحل عبدالكريم الجهيمان، الذي رحل مساء يوم الخميس الماضي، لناحية تبنيه قضايا ومواقف لا مساومة عليها، فيما يخص التعليم وتعليم المرأة تحديداً، متوقفين أمام ما قدمه الراحل من جهود فريدة في جمع وتوثيق الأساطير والشعبية وكذلك الأمثال. وقال هؤلاء المثقفون ل«الحياة» إن الراحل يعد أحد أكبر الرواد في المملكة في الفكر والثقافة والصحافة. وقال وكيل وزارة الثقافة والإعلام للشؤون الثقافية الدكتور ناصر الحجيلان إن الوطن فجع «بوفاة الأديب عبدالكريم الجهيمان، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وألهم ذويه الصبر والسلوان. فقد ترك لنا إرثاً ثقافياً مميزاً وفريداً في مجالات كثيرة في الصحافة والرحلات والتجارب الشخصية والفولكلور والاهتمام بالمرأة»، مشيراً إلى أن وكالة الوزارة «شرعت في الترتيب لإعادة طباعة بعض مؤلفاته الرائدة لكي تكون متاحة ضمن مشروع «الكتاب للجميع»، الذي تنفذه الوزارة ليتزامن مع معرض الكتاب الدولي المقبل، كما بذلت جهداً لإبراز شخصيته الثقافية ضمن جيل الرواد عن طريق التوثيق الشفهي لسيرته الذاتية ومنجزاته. وتخطط الوكالة لعمل فهرس تفصيلي للموروث الشعبي يعتمد على مؤلفاته في الأساطير الشعبية والأمثال الشعبية بهدف تعميق الاستفادة منها في الدراسات والأبحاث المتخصصة». وأوضح الروائي أحمد الدويحي قائلاً: من حسن حظي أني تعرفت على الجهيمان واقتربت منه ومن تجربته النضالية والريادية الشاملة. وهو رمز مهم لذاكرة الأجيال في المملكة وذاكرة المثقفين أيضاً. أبو سهيل كما كان يحب أن نناديه، وهو الاسم الذي أصر على أن يسميه مرتين بعد وفاة سهيل الأول، وكان أيضاً قد سمى ابنته «الثريا»، وكأنه كان يريد أن يجمع سهيل اليمن وثريا الشام. تاريخ الجهيمان طويل جداً ومكانته كبيرة لا تكفيها عجالة، لكني أختصرها الآن، متذكراً إياه عندما دخل ردهة معرض الكتاب في دمشق في التسعينات، وكان متكئاً على عصاه برفقة الباحث الصديق محمد القشعمي، حيث قابلته للمرة الأولى، وكنت يومها أنتظر الراحل عبدالرحمن منيف، وليلتها قضينا ليلة لا تنسى. ومن بعدها، عرفت في الجهيمان الأديب والمثقف الكبير والذاكرة الوطنية، وعرفت فيه حب الوطن وحب الوفاء والرجولة، ودماثة الخلق وخفة الظل والروح. رافقته في أكثر من محطة بل وتشرفت بأن اختارني أحد المتحدثين في ليلة تكريمه في مسقط رأسه «شقراء» قبل أكثر من سبع سنوات، كما تشرفت أن اختارني متحدثاً عنه عندما كرمته مجموعة من نساء المنطقة الشرقية اعترافاً منهن بفضله في دعم تعليم الفتاة ودفعه جزءاً من حريته ثمناً لذلك. فيما يرى رئيس نادي الرياض الأدبي الدكتور عبدالله الوشمي أنه يمكن اختصار الراحل « بكلمة واحدة، وهي: الأب، وذلك على مستوى الجيل والثقافة. فأما مستوى الجيل، فإن الله سبحانه وتعالى أمده بالعمر المديد الذي مكنه من اختراق عدد من الأجيال ومعايشتها، والالتصاق بتجربتها، والتأثر والتأثير فيها، وهو ما تعكسه مفردات حياته... وأما على مستوى الثقافة، فإنه المثقف المتعدد الذي ترك أثره في مسارات متعددة، فهو أب إعلامي كبير من خلال صحيفة «أخبار الظهران»، وهو أب أدبي كبير من خلال رسائله ورحلاته، وهو أب فكري كبير من خلال آراء فرد من الشعب، وهو أب شعبي مميز من خلال أساطير شعبية، وهو إلى ذلك شاعر جيد، ومتحدث متمكن، إضافة إلى مسؤوليته الثقافية التي تتجلى في وعيه بمفهوم الخيرية حين تبرع بالمدرسة التي تحمل اسمه. عبدالكريم الجهيمان رحمه الله رجل لا ينتهي، وامتداد لا يتوقف». في حين قال الكاتب والقاص محمد علوان: مات عبدالكريم الجهيمان، حارس الأساطير، والذي ظل يلاحق المثل والأسطورة والحكاية مثلما يفعل المحب العاشق الصادق، وذلك لأن الحرص لا يأخذ نسقاً واحداً نعني به الحفظ لمجرد الحفظ فقط. ولكنه بهذا الجهد يمثل المعنى الآخر للحفظ وأعني إحياء الذاكرة والحرص على إبقائها ممتدة للأجيال القادمة محافظة على جذوتها. الذاكرة التي تناضل للبقاء ضمن هدف الكتابة تعني لعبدالكريم الجهيمان فكرة التغيير والتجاوز، رغم ما عاناه في بداية الطريق من منع وإيقاف وسجن لكنه أثبت أن الحريص على الوطن وذاكرته المليئة بالشجن والحب والمعاناة، هو الذي يثبت في النهاية معنى وفكرة المواطنة الحقة، والتي أثبتت أن أيام المعاناة والتعب أشبه بالمحفز لعطاء أعظم"، مشيرا إلى أن عبدالكريم الجهيمان "واحد من أكثر الكتاب عطاء واستمراراً وصدقاً، بل هو واحد من القلائل الذين قاربوا الخطوط الحمراء، ليس بحثاً عن إثارة وإنما لغرس حب الوطن والثقافة والمعرفة لإنسان هذا البلد، والذي علمنا الجهيمان امرأة أو رجلاً، إنما يمثل إضافة وإضاءة تكشف المساوئ وتنير العمل والجهد الذي يستحق التنويه والإشادة. عبدالكريم الجهيمان عاش صادقاً طيلة عمره صامتاً في آخر أيامه وكأني به يستعد لرحلة لن يتمكن من كتابة تفاصيلها وأحداثها رحم الله هذا الجبل المنيف والذي دخل ذاكرتنا التي لن تنسى أسطورة أعاد كتابتها ولا مثلاً جمعه ولا حكاية شعبية طربنا لتفاصيلها". واعتبر محمد المشوح أن فقد الأديب الكبير الشيخ عبدالكريم الجهيمان «خسارة فادحة وكبرى للمشهد الثقافي السعودي، ذلك أن الجهيمان يبقي هو الشاهد الأخير والكبير على تطور الثقافة في بلادنا منذ توحيدها على يد الملك عبدالعزيز، إذ رحل عن هذه الدنيا بعد أن عاش قرناً من الزمان خاض خلالها معارك أدبية وفكرية ساخنة وكتب ودون ورحل وشارك. كانت له بصمته المعروفة في الصحافة السعودية حيث إنه يعد من أوائل الكتاب السعوديين الذين شاركوا في بدايات الصحف السعودية. وكانت «الثلوثية» ممن قامت بتكريم الجهيمان في ليلة وفاء خاصة، حضر فيها جمع من المثقفين والأدباء». وقال الشاعر علي الدميني: فقدت بلادنا علماً من أعلام التنوير والتقدم الحضاري، خلال أكثر من 70 عاماً، خط اسمه على واجهات منعطفاتها المهمة في مختلف الحقول الإعلامية والثقافية والأدبية. كان شيخنا الكبير عبدالكريم الجهيمان يعبر عن بوصلة الضمير الوطني التي تشير دائماً بعفويتها وصدقها وعطائها إلى مسارات الطرق الصحيحة، وكان رمزاً من رموز المكاشفة والمصارحة والعين النقدية طوال مسيرة حياته، رغم ما ناله جراء تلك الرؤى، والمواقف من صعاب أو عقبات». وسرد الروائي خالد اليوسف موقفاً حصل له مع الراحل، إذ يقول: كنت في المرحلة الثالثة من الإعدادية، وكنا في فصل الصيف نستفيد من الإجازة المدرسية الطويلة في العمل، والتحقت بمحكمة الرياض الكبرى للعمل بها، واختارني مدير قسم السجلات وإصدار الصكوك الشرعية لأن أكون في قسمه، وفي يوم من أيام الرياض الصيفية شديدة الحرارة وإذا أنا أمام رجل كبير في السن من غير هرم، وقد جاء يطلب صكه الشرعي مثل غيره من المراجعين، وحين طلبت منه معرفة اسمه لكي أصل إلى مراده فإذا هو يخبرني أنه عبدالكريم الجهيمان، فطلبت منه بقية اسمه أو الاسم الكامل فذكره لي ومنحني فرصة لكي أبحث عن أوراقه، ذهب لبعض الوقت ثم عاد إليّ ومعه كتاب بيده، سلمه لي وهو يستلم صكه بيده الأخرى وقال لي: أنا صاحب هذا الكتاب وأرى في ملامحك جد وعمل ومستقبل للقراءة والمطالعة والبحث عن المستقبل ويسرني أن تقرأه! شكرته بامتنان وفرحت أن مؤلف كتاب كبير يهديني نسخة من كتابه. فيما يقول الشاعر عبدالله الصيخان: أين الطريق، ذلك هو السؤال الذي طرحه عبدالكريم الجهيمان ذات يوم وكان عنواناً لأحد كتبه. ونحن هنا لا نحاول إعادة طرح هذا السؤال الشائك. ذلك أن الأسئلة الصعبة التي طرحها جيل الرواد ظلت قائمة وظلت حقاً مشروعاً للأجيال التالية أن تسترجعها وتعيد التذكير بها، وتقارب الأجوبة التي تحاول أن تتبين الغي من الرشد في كل أطوار نمو المجتمعات والتحاور مع أزماتها وتحولاتها. والجهيمان واحد من جيل التنوير الذي ضم حمد الجاسر وعبدالله عبدالجبار وأحمد السباعي ومحمد حسن عواد وحمزة شحاته وآخرين. ذلك الجيل الذي حمل عبء التغيير والإصلاح وحاول أن يؤسس لهذه الثقافة بأن يبذر بذورها الأولى، متسلحاً برؤية شفافة ترى في طرح مثل هذا السؤال حقاً مشروعاً للمجتمعات وواجباً يقوم به مثقفوها وقادة الرأي. ولا يزال السؤال مطروحاً كأنما حبر كتابته لم تجف بعد... ». ...الراحل شهد على العصر