في الذكرى السابعة لرحيل أبو عمار يستعيد الفلسطينيون اليوم حجم إحساسهم بالخسارة الذي داهمهم يومها، والذي ترافق مع حالة كبرى من الحيرة في العثور على إجابات شافية لأسئلة حياتهم السياسية ومصيرهم الوطني. لم يكن ياسر عرفات رجلا أنجبته المؤسسة، ولهذا تضاءلت المؤسسة طيلة العقود التي كان فيها القائد الأول (بل الأوحد تقريبا) حتى إذا جاءت لحظة غيابه اشتعلت الأسئلة التي كانت تدور قبلها همسا وفي صورة غير جادة أغلب الأحيان: ماذا بعد؟ كان السؤال يختصر حزمة من الأسئلة التي تبدأ بالعلاقة بين القيادة الرسمية والشعب، ولا تنتهي بسؤال تلك العلاقة بالفصائل الفلسطينية، بل أكثر من ذلك بالتنظيم الأكبر الذي انتمى إليه أبو عمار والذي أوصله للموقع القيادي الأول. بمعنى ما، كان غياب ياسر عرفات يعني للجميع استعادة الحياة السياسية الطبيعية، أو على الأقل كان ذلك هو المؤمّل والذي يتطلع الجميع معه الى بداية أخرى. لحظة الغياب كانت هي أيضاً لحظة «اكتشاف» الجميع ضعف وهشاشة وشكلية المؤسسة السياسية والتنظيمية الفلسطينية وافتقارها الى الأطر الديموقراطية، بل الى أية آليات عمل جدّية يمكن أن تحمل على كاهلها عبء الحياة السياسية برمتها، بعد عقود أربعة من قيادة اعتمدت كاريزما الشخص الأول التي تهمّشت معها والى جانبها كلُ الشخصيات الأخرى. كان أبو عمار رجل السياسة ورجل القضايا الإدارية وصاحب الولاية الأولى على المال، أي صاحب القرار النافذ في كلّ ما يتعلق بالحياة اليومية للمؤسسات الفلسطينية التي لم تكن هيئاتها القيادية سوى الأطر التنفيذية التي تتولى تحويل قراراته الى حقائق دون أن تتمكن يوماً من امتلاك حق اتخاذ القرار، حتى في تلك المؤسسات المتخصصة كالاتحادات المهنية والمنظمات الشعبية، فلا غرابة أن اتحادات العمال والكتاب والأطباء وغيرها كانت تنتظر قرار أبو عمار، أو بالأدق كان عليها أن تنتظر ذلك القرار، الآتي من خارج صفوفها، والذي يعني تماماً أنها تفتقد أهليتها في تمثيل القطاعات المهنية التي تأسست من أجلها. ذلك ما وضع الجميع، فصائل وأحزاباً سياسية ومنظمات شعبية، أمام ارتباك غير مسبوق وخلق في الوقت ذاته مساحة لظهور التناقضات الداخلية التي كانت «مطمورة» طيلة سنوات المراحل السابقة. حدث ذلك في المؤسسات كلها لكنه كان شديداً وثقيل الوطء في حركة فتح بالذات، وهي التي ينعكس أي ارتباك في صفوفها على الجميع باعتبارها الفصيل الفلسطيني الأكبر، ولكن بالذات باعتبارها من تقود منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة، وتدير شؤون المنظمات الشعبية والإتحادات المهنية. هنا بالذات كان على الجميع، فصائل ومؤسسات وأفراداً، أن «يقتنعوا» أن ياسر عرفات قد غاب للأبد، وبكلام السياسة كان عليهم قراءة حدث الغياب باعتباره بداية مرحلة جديدة تماماً. غير أن ما حدث ويحدث في الساحة الفلسطينية لم يكن كذلك أبداً، فالجميع تطامن مع حدث غياب أبو عمار باعتباره حدثاً عادياً لا يتطلّب قرارات ومواقف استثنائية. لقد تعامل الجميع مع الحدث بسياسة «الإكمال» التي تحدث عند وفاة أو استقالة رئيس دولة دون ملاحظة أن تلك الإكمالات تقع في دول مستقلة وذات حياة سياسية برلمانية سليمة ولو بالحدود النسبية، ومع ذلك يندر أن يتمكن النائب الذي صار رئيساً من الفوز بالانتخابات التي تعقب فترة رئاسة سلفه الراحل التي أكملها، وكان آخر الأمثلة جيرالد فورد نائب الرئيس الأميركي ذي الولايتين ريتشارد نيكسون. ما حدث في الساحة الفلسطينية بعد غياب ياسر عرفات جاء أقرب الى حكومة «تسيير أعمال» يعتبرها الجميع حكومة مستقيلة وتنتظر أخرى تخلفها حتى لو طالت فترة الإنتظار كما هي حال الساحة الفلسطينية اليوم. نقول ذلك ونحن نعرف أن وصول الرئيس أبو مازن للموقع الأول في المنظمة والسلطة هو بكل المعاني نقلة نوعية لمصلحة تعزيز الديموقراطية وتفعيل دور المؤسسات، لكنه والحق يقال جاء والكل الفلسطيني مؤسسات وفصائل بما فيها حركة فتح يعانون إرث غياب أبو عمار وبالذات الخراب الكبير في بنية المؤسسات الوطنية بما فيها المؤسسة الأم اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. رئاسة أبو مازن تحتاج بالضرورة، الى استكمال مهمة التجديد بتحقيق المهمة الكبرى، اعادة تأهيل المنظمة والسلطة، بل وإعادة هيكلة المنظمات الشعبية والاتحادات المهنية وانتشالها من حالة التكلس واللافاعلية والتآكل التي تعيشها منذ سنوات طويلة. يصعب الحديث عن غياب أبو عمار بإقامة احتفالات الذكرى وطقوسها ومهرجاناتها كما هي العادة، دون إجراء مراجعة شاملة، حقيقية وجدّية، تتناول جوانب الحياة السياسية والحزبية، ولا تستثني الشأن الإداري والفساد وغيرها من الموضوعات الكبرى التي لا تزال تنخر في جسد المؤسسات الفلسطينية وتجعلها غير قادرة ولا مؤهلة لتحقيق أية إنجازات في مواجهة الإستحقاقات الكبرى والمصيرية. ومن يتأمّل الحدث الفلسطيني يلحظ بيسر الهوة التي تفصل المؤسسة الفلسطينية عن المهمات الكبرى التي تنهض لتحقيقها، وهي هوة تحتاج لجهود كبرى، لا تستثني مجالاً من دون تصحيح، وإلا ستظل حالة المراوحة هي السائدة. * كاتب فلسطيني