بينما بات واضحًا عجز الحوار الوطني الفلسطيني عن التوصل الى نتائج عملية تعيد الوحدة الجغرافية وتعطي الفلسطينين أملاً جديدًا لمرحلة مقبلة، تشتد قسوة المشهد في ثناياه المختلفة، بدءًا من العلاقات الداخلية مرورًا بالانقسام السياسي والجغرافي بين الضفة الغربية وقطاع غزة وانتهاءً بتعطل عملية السلام وانشغال العالم بأجندات أخرى. ومن هذه الصورة القاتمة تبرز حاجة الفلسطينيين الى الزعيم الراحل ياسر عرفات وكأنها حاجة مزمنة مع أن الرجل مضى إلى نهايته كيفما اختارها. ولكل قيادي فلسطيني عايش عرفات حكايته، لكنها مع رجل الاقتصاد والسياسة ورئيس «منتدى فلسطين» منيب المصري، ذات نكهة متجددة تحمل تفاصيل من محطات تاريخية. الرجل يروي ل»الحياة» تجربته الخاصة مع عرفات التي تشكل حقبة تاريخية فلسطينية مهمة. ووسط أجواء من التفاؤل بالحوار والوحدة والآمال بتحقيق اللحمة الفلسطينية مرة أخرى، يعبر المصري عن جزء من تجربته مع ياسر عرفات: يقول المصري إنه تعرّف على عرفات عن قرب قبل أكثر من 40 سنة، اكتشف خلالها عظمة الرجل وتميزه: «تعرفت إلى ياسر عرفات في بداية الستينات خلال عملي رئيساً لفرع شركة «فيليبس بتروليوم» الأميركية في الجزائر وذلك عندما التقيت خليل الوزير (أبوجهاد) في العام 1963 الذي جاء ليتولى مسؤولية مكتب حركة التحرير الوطني (فتح) في الجزائر، وتوطدت علاقتي الشخصية مع القيادي «أبوجهاد»، رأيت فيه التزاماً مطلقاً بفلسطين، ووفّرت له كل ما يريد، لدعم العمل الوطني، وبدأت أحمل رسائل ووثائق ومطبوعات وجوازات من «أبو جهاد» إلى دول عدة. ومن ثم كانت البداية مع عرفات. في أحد الأيام كنت جالساً في مكتبي دخل أبو جهاد ومعه رجل بملابس مدنية وقال لي: أعرفك بياسر عرفات. دهشت في البداية لأن لهجته كانت مصرية أكثر منها فلسطينية، ويبدو أن عرفات شعر بذلك فقال لي: «شو القصة... مالك مش مرتاح». فأجبت بأنني «تذكرت أحد أبناء عمومتي الذي زار القاهرة لمدة أسبوع وعاد إلى نابلس ليتحدث بلهجة مصرية طوال حياته»، فضحك عرفات وقال: «لا.. لا ... الحكاية أنني منذ طفولتي أعيش في مصر». ويتذكر المصري رحلة البداية مع قيادة المنظمة في عهد أحمد الشقيري: في العام 1964 جاء أبو عمار وأبو جهاد إلى مكتبي وأبلغاني أن رئيس منظمة التحرير الفلسطينية أحمد الشقيري موجود في الجزائر، وأنهما يرغبان في لقائه وفي أن أكون برفقتهما، وذهبنا معاً وانضم إلينا في اللقاء مع الشقيري كل من القياديين حمدان عاشور ومحمد أبو ميزر. وخلال اللقاء طلب أبو عمار أشياء محددة من الدعم المعنوي والمادي، كان يتحدث بحرارة وحماسة، وفي الأثناء احتدم النقاش. قال أبو عمار للشقيري «خلال 10 سنوات على الأكثر ستسمع صوتي هذا من أعلى المنابر في العالم. نحن ثوار ولدينا برنامج نضالي». في تلك اللحظات خالجني شيء من الشك فيما يقول عرفات، لكنني تأكدت بعد 10 سنوات على ذلك اللقاء أنه كان يتحدث برؤية عميقة وببعد نظر، فقد رأيته يوم 13/11/1974 يلقي خطابه الشهير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. وزاد إيماني يومها بأن هذا الرجل يملك رؤية وحدسًا وخصائص لا تتوافر لغيره. ويشير المصري إلى أن علاقاته مع «أبو عمار» ظلت متواصلة: لم أكن أخفي العلاقة وكان أصدقاؤه يصفونني ب «العرفاتي» ويقولون: «جاء العرفاتي»، و«ذهب العرفاتي»، وكان البعض يظن أنه يعايرني بذلك، ثم وقعت الأحداث المأسوية والاشتباكات التي توّجت بكارثة أيلول (سبتمبر) 1970. خلال تلك الفترة كلّف الملك حسين وصفي التل تشكيل الحكومة الأردنية بعد أحداث أيلول، وعرض عليّ التل تولي وزارة الأشغال العامة لإعمار ما دمّرته الاشتباكات والمعارك في الأردن في الأشهر السابقة خصوصًا في أيلول، فطلبت مهلة للتفكير وقررت مشاورة عرفات في الأمر، وحين عرضت الأمر عليه سارع إلى القول: لا تتردد يا (أبو ربيح)، وأيّده «أبو إياد» و«أبو جهاد» في ذلك، وفعلاً عينت وزيراً للأشغال من دون راتب. تعرف عرفات على وصفي التل في بيتي، وكنا نتناقش ونعمل على حل المشاكل والتجاوزات، وكانت المواجهات الكلامية والحوارات بين عرفات والتل تمتد إلى فجر اليوم التالي، كما جمعت الملك حسين وياسر عرفات في لقاء في بيتي. ومع مرور الأيام وتوالي الأحداث زادت علاقتي قوة ووثوقًا بعرفات الذي يملك قدرة عجيبة على احتواء الناس وإشعارهم بخصوصيتهم. كان يستمع إلى الجميع ويناقش، لكنه في النهاية هو صاحب القرار. ولم يكن ليعتمد على شخص واحد في أي موضوع. كان يمد خيوطًا عدة خمسة، أو خمسين، ويجمعها كلها بيده. وكان «يبالغ» أحياناً أو «يخفف» في بعض الأمور خدمة للقضية التي سكنته. ولكن، جاء تطور الأحداث في الأردن على عكس ما كان يريد عرفات، وتدهورت الأوضاع، وفي غمرة ذلك عرض عليّ وصفي التل بناء على طلب الملك حسين أن نحضر «عرفات» لنصالحه مع «الملك». وفعلاً توجهت مع رجل المصارف الفلسطيني المعروف عبد المجيد شومان والسياسي الفلسطيني ابراهيم بكر وأنا برفقة سفير المملكة العربية السعودية أحمد الكحيمي، وبسيارته الديبلوماسية إلى منطقة احراج عجلون لمقابلة عرفات والسعي لإقناعه بمصالحة الملك. وكان أبو عمار محاصراً ومعه عدد من رجال المقاومة الفلسطينية في جبل الأقرع في منطقة جبال عجلون. بعد وصولنا دخلنا إلى أحد الخنادق تحت الأرض – كان موجوداً فيها وأقنعناه بالخروج إلى «الشمس» - أبكانا «أبو عمار» وهو يروي فظائع المعاناة والمآسي التي شهدها في المخيمات وبين الفدائيين، لكنه أبدى استعداداً لمصالحة الملك. ورافقنا في سيارة الكحيمي ومررنا بثلاثة حواجز عسكرية أردنية، كدنا نقتل عند أولها، حيث صّوب جندي أردني غاضب سلاحه علينا وأوشك أن يطلق النار، لكن «أبو عمار» تحدث معه ومع الجنود الآخرين عند الحواجز التالية بلهجة حازمة آمرة بقوله «التزموا أنتم تتكلمون مع ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية». وفعلاً كان الجنود يلتزمون ويتراجعون، وعند كل حاجز كنت أشعر أن نهايتنا قد حلت. طلب أبوعمار قبل التوجه إلى عمان أن ننقله إلى درعا على الحدود السورية - الأردنية ليحضر ملفاته منها، وتوجهنا فعلاً إلى درعا، وانتظرنا نحو ساعتين لكنه قال إن الوقت أصبح متأخراً وأنه يفضل أن يتوجه إلى عمان في اليوم التالي، وقال لي: «تعال بكرة». وفي اليوم التالي ذهبنا إلى درعا لاصطحاب عرفات إلى عمان، لكنه قال لي «اسمع يا منيب أنت أنقذت حياتي حين أخذتني في سيارة الكحيمي (الديبلوماسية) من جبال عجلون – فقد قصف الجيش الأردني الموقع بعد مغادرتنا واستشهد عدد من الفدائيين – وإذا ذهبنا إلى عمان فهل أنت مستعد لتتحمل دمي؟ فأجبته فوراً: لا. وتابع «أبوعمار»: أنا لن أذهب إلى عمان كمطارد وهارب. وإذا أردت الذهاب إلى عمان فيجب أن يستقبلوني فيها كرئيس دولة. وهنا أقر مجددًا بِبُعد نظر الرجل بل قدرته على استشراف المستقبل، لأنه بالفعل ذهب إلى عمان واستقبل فيها كرئيس دولة، وذلك يوم وصلها آتياً من بيروت للمشاركة في تشييع جنازة رئيس وزراء الأردن الشريف عبد الحميد شرف في العام 1980. تنشيط الاتصال بالغرب كما في كل الساحات التي عملت بها الثورة الفلسطينية ظلت علاقاتي الشخصية والتنظيمية مع «أبو عمار» على حالها متميزة، وتواصلت علاقتي مع الرجل بعد انتقاله إلى لبنان. وبعد خروجه وقوات الثورة الفلسطينية من بيروت في العام 1982، فكرت مع عدد من رجال الأعمال الفلسطينيين في التحرك للقيام بما يمليه الواجب لمساعدة الشعب الفلسطيني وبما يخدم القضية الوطنية، فأسست مع شخصيات وطنية بارزة فلسطينية «مؤسسة التعاون»، وذلك في لندن في مطلع العام 1983 بهدف دعم وتعزيز صمود الشعب الفلسطيني في مختلف تجمعاته، ولتنشيط العمل السياسي الفلسطيني في الولاياتالمتحدة والغرب. ونشطت «مؤسسة التعاون» في العمل، خصوصًا في الضفة الغربيةوغزة، وكذلك في الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1948 «داخل الخط الأخضر» واعتقد البعض حينها أن هذه المؤسسة (التعاون) قد تكون صيغة قيادية بديلة لمنظمة التحرير، وربما وصلت هذه الشكوك إلى «أبو عمار»، لكننا سرعان ما أكّدنا له توجهاتنا وتمسكنا القوي بالمنظمة وقيادته فاطمأن ولم يتأخر عن توفير أي دعم سياسي لنا. وعندما شعرت بأن عرفات والمنظمة في وضع «صعب» سياسيًّا وماليًّا، خصوصًا في عامي 1986 و1987، قمت بالتعاون مع الأخ أحمد قريع (أبو علاء) بتنظيم أول مؤتمر اقتصادي فلسطيني عالمي، عقد في تونس في رعاية أبو عمار، ثم رافقته في رحلته الشهيرة إلى جنيف في أواخر العام 1988 حين انتقلت الجمعية العامة للأمم المتحدة من مقرها في نيويورك إلى مقرها الثاني في جنيف للاستماع إلى خطاب عرفات بعد أن رفضت الحكومة الأميركية منحه تأشيرة دخول إلى نيويورك. ويضيف المصري أنه أشرف على الكثير من الاتصالات بين المنظمة والأميركيين من خلال اتصالات رسمية وإعلامية، وشارك في الاتصالات التمهيدية لبدء الحوار الأميركي مع منظمة التحرير الفلسطينية يقول: في هذا الإطار دعونا إلى تونس كاتبين أميركيين بارزين هما: جون وجانيت والاش لتأليف كتاب عن عرفات ونشره في الولاياتالمتحدة والغرب. بعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية في العام 1994 عاد المصري إلى أرض الوطن وأسس مع عدد من رجال الأعمال شركة فلسطين للاستثمار «باديكو» وغيرها من الشركات للمساهمة في إعمار الضفة وغزة ويقول إنه وخلال السنوات التي تلت العودة تواصلت علاقته القوية مع «أبو عمار» على غير صعيد: عرض عليّ مرة أخرى منصب رئيس الوزراء أثناء حصاره في المقاطعة في رام الله في العام 2003 وذلك في غمرة الحديث عن إدخال إصلاحات على السلطة، وقال أمام مبعوث الرباعية الدولية تيري رود لارسون «أنا أرشح منيب المصري»، ولقد كنت «عاطفياً» أريد تقلد منصب رئيس الوزراء من كل قلبي ، لكن عقلي كان يرفض. وبعد ثلاثة أيام من تكليفي ذهبت إلى الرئيس عرفات برفقة الأمين العام للرئاسة الطيب عبد الرحيم وقلت له» لا أريد أن أقسّم «فتح» ولا «أبومازن» الذي اعتقد أنه يجب أن يكون رئيس الوزراء، وسنحضره لتقوم بتكليفه بتشكيل الحكومة فوافق وهذا ما تم فعلاً. مرض الرئيس واستشهاده يقول منيب المصري: طوال الأيام التي عاشها عرفات محاصرًا في المقاطعة في رام الله لم أنقطع عن زيارته، وحينما تعرض للانتكاسة الصحية في أواخر شهر تشرين الأول (أكتوبر) 2004 لم أشعر بقلق كبير عليه، كنت أعتقد أن ما يحدث هو مجرد غمامة ستزول وسيعود «أبو عمار» بعد شفائه قويًّا صلبًا... قائداً وبطلاً. قال لي عرفات وأنا أودّعه في المقاطعة بعد أن صعد إلى الطائرة المروحية: «لا تتركني يا منيب» فسقطت وتعرضت لإغماءة تأثراً، وعلى رغم مكابدته المرض إلا أن الرئيس اتصل من عمّان التي وصلها في طريقه إلى باريس للاطمئنان على صحتي، أما أنا فلحقت به إلى باريس لأكون بقربه في محنته. كانت تلك الأيام من الأقسى والأصعب في حياتي، مع أنني كنت دائمًا مؤمنًا بأن ياسر عرفات سيعود، وأنه كما عوَّدنا سينجو... ورافقت جثمانه في رحلته الأخيرة من باريس إلى رام الله. كنت في كل لحظة أنتظر المعجزة وأتوقعها. أنه سينهض وسأتحدث إليه مجددًا، فقد اعتدت طيلة أكثر من 40 سنة أن أراه بطلاً، قائدًا ملهمًا، شجاعًا جريئًا، إنسانًا متواضعًا، صديقًا وفيًّا ولطيفاً. عرفات فى حياته كما في مماته رأيت فيه الرجل واعتبرت مسيرته الطويلة طريق الخلاص للفلسطينيين من انقسامهم ونبراسًا للخلاص من الاحتلال. يقول المصري: لي مع عرفات شريط طويل من الذكريات الجميلة أستمد منها الأمل والحياة على رغم قسوة المصاب إنها محطات مهمة كل منها يمثل وحده تاريخًا عن فلسطين القضية وعن التحرير والمستقبل.