بعد طول ترقب، أصدرت «محكمة جرائم الفساد» الفلسطينية حكمها على محمد رشيد، مستشار الرئيس الراحل أبو عمار، بالسجن خمسة عشر عاماً، وتغريمه مثلها من ملايين الدولارات الأميركية. وطالب الحكم في حيثياته رشيد وشركاءه برد ما مجموعه 33496976 دولاراً أميركياً اتهمهم باختلاسها من «صندوق الاستثمار الفلسطيني» الذي كان يديره رشيد خلال رئاسة أبو عمار. قرار الحكم أشعل جدالات كانت تشتعل وتخبو وفق ظروف القضية والحالة السياسية في فلسطين. نقاشات النخبة السياسية والثقافية وإن جاءت مؤيدة لإدانة رشيد، إلا أنها حملت في الوقت ذاته استخفافاً بقرار المحكمة، واعتبره كثير من المراقبين لا يعادل ما وقع من فساد، بل رأى فيه أغلبهم حكماً «مخففاً» لا يليق بالعدالة، ولا يحقق الغاية المرجوَّة منه. أهم تعليقات المراقبين ذهبت إلى ضرورة المساءلة بجديَّة: أن تتهم شخصاً عمل في الحركة الفلسطينية بالفساد والإثراء وامتلاك عشرات الملايين من الدولارات، يعني بداية الإجابة عن السؤال الأهم والغائب: من أين لرجل جاء الى الحركة الفلسطينية بلا مال يُذكر أن يكون «صالحاً» للشك في امتلاكه الملايين أصلاً؟ بكلام أكثر وضوحاً: هل يتعلق عمل المحكمة بتقصّي ما إذا كان المذكور قد استولى على مبالغ مالية كبيرة من «صندوق الاستثمار» وحسب، من دون مساءلته عما يملك من أموال عموماً، والجميع يعرفون أن الرجل لم يكن يملك شيئاً قبل اشتغاله بالعمل الفلسطيني العام، وتسلُّمه مواقع سياسية نافذة لا نبالغ إذ نقول إنها تجاوزت في مرحلة معينة ما يمتلكه كبار القادة الفلسطينيين في حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة. استطراداً في سياق كهذا، يتساءل المراقبون: هل كانت الجهات السياسية الفلسطينية (وتالياً القضائية) ستحاكم رشيد لو أنه ظلَّ في صفوف السلطة وحركة فتح؟ أسئلة مشروعة وتجد لها مساحة كبرى في الجدل اليومي الدائر، بل وتتفرع عنها أسئلة لا تقلُّ خطورة، لعل أبرزها سؤال يتعلق بفاسدين آخرين لم تأت المحكمة على ذكرهم، فيقال هنا: ماذا لو كان رشيد قد حضر المحكمة شخصياً وأطلق لنفسه حرية الكلام عن شخصيات مرموقة وكوادر بارزة كانت بشكل أو بآخر ضالعة في قضايا فساد؟ على أن الأهم من هذا وذاك هو سؤال الفساد ذاته: كيف تتم «صناعة» الفاسد؟ جدل قضية محمد رشيد يذهب مباشرة إلى النقطة الأكثر خطورة والأشد أهمية: ما هي مسؤولية الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات عن الفساد ورعاية الفاسدين؟ مشروعية السؤال تأتي تماماً من معرفة أن نفوذ محمد رشيد في الحركة الفلسطينية جاء أساساً من رعاية ياسر عرفات وحمايته له، وهي مسألة تحيلنا من جديد للقضية القديمة الجديدة التي ظلَّت أساسية في قراءة مواقف أبو عمار. نعني هنا بحثه عن ولاء الأشخاص وليس عن وفائهم والتزامهم، والولاء هو هنا ولاء لقيادته وشخصه وليس بالضرورة للقضية ذاتها. يعرف فلسطينيو الحركة السياسية أن أبو عمار لم يُقْدِمْ مرة على كف يد أحدهم عن مواقع مسؤولية بسبب من فساده، بينما واظب على فعل ذلك إذا قام أحد ما بمخالفة تعليماته الشخصية. كل من اختلفوا مع محمد رشيد (ومنهم كاتب هذه السطور) دفعوا أثماناً باهظة، مع علم الراحل أبو عمار أنهم كانوا على حق وأن رجله كان مذنباً ومداناً، وكانت القضايا كلها لا تحقق غير شتائم وتهديدات يطلقها أبو عمار بحق رشيد، لينفضَّ «المولد» بمعاقبة الضحايا وتعزيز موقع رشيد. أعتقد أن حكماً «متأخراً» كثيراً على محمد رشيد هو أحسن مِن قلَّته كما يقال، لكنه لا يحجب أسئلة كبرى تظل بحاجة لإجابات جدّية، ومنها سؤال الفساد: هل نحكم على فاسد أم نحارب الفساد؟ ذلك هو السؤال، وهو يستدعي قراءات أخرى لا نراها في مرافعة النائب العام (رغم صدقها)، ولا في حكم القاضي (رغم أهميته)، ولكن في تأمُّل المؤسسات الفلسطينية المدنية والعسكرية على السواء، ورؤية الحالة المزرية من النهب والاختلاس في ظل انعدام الرقابة والمحاسبة. تبدأ المسألة من هنا، أما غير ذلك، فليس سوى العبث والإلهاء. * كاتب فلسطيني