إذا كان انهيار نظام صدّام حسين قبل ثمانية أشهر يُعدّ إيذاناً بتحوّلات كبرى في منطقة الشرق الأوسط، فإن إلقاء القبض على الرئيس العراقي السابق على يد القوات الأميركية يفتح الباب واسعاً أمام وضع السيناريوات المحتملة لمستقبل الشرق الأوسط. فالعراق بما يمثله من ثقل بشري وقومي وعسكري واقتصادي يشكّل أحد المحاور الرئيسة للنظام الاقليمي الشرق الأوسطي. وبالتالي فإن كل تغيير في العمق يطاول الوضع العراقي، كما يحصل اليوم، ينعكس على مجمل أوضاع المنطقة، خصوصاً أن قوى عالمية كبرى تقف وراء هذا التغيير على رأسها الولاياتالمتحدة. وأميركا بالذات لم تخفِ أهدافها بضرورة قيام شرق أوسط جديد مبني على الديموقراطية انطلاقاً من العراق. وهكذا تجتمع الأسباب الموضوعية والذاتية لصياغة شرق أوسط جديد يتوافق ومرحلة ما بعد صدّام حتى وإن كان ذلك أمام عيون صدّام الذي يواجه المحاكمة! فماذا عن صدّام الرجل... وعن المعاني السياسية لاعتقاله؟ وما هي الملامح الأساسية لمستقبل الشرق الأوسط بعد صدّام؟ أولاً: صدام حسين قراءة سيكولوجية لعله من المفيد والضروري العودة الى تحليل شخصية الزعيم العراقي من منظور نفسي سيكولوجي. هذه القراءة تفسّر الى حد كبير الكثير من تصرفات الرجل ومواقفه وقراراته السياسية والأمنية والعسكرية سواء بالنسبة لعلاقاته مع أقرب الناس اليه... وصولاً الى مغامراته العسكرية الدولية. ولعل الطريقة التي واجه بها الظروف الصعبة إن في حربه مع إيران أم في الكويت أم داخل العراق، أم في قلب بغداد... أم في طريقة اختبائه وإلقاء القبض عليه، كل هذه الممارسات تعكس جوانب مضيئة ومظلمة من شخصيته. وتجدر الإشارة، في هذا المجال، الى صعوبة الأخذ بشهادات جميع الأشخاص الذين عرفوه وعايشوه أو تعاملوا معه أو ذاقوا المرارة أو الحلاوة على يديه. ان دراسة سيكولوجية صدام حسين مسألة مركزية في فهم ما جرى في العراق وحوله طوال ثلث قرن من التاريخ وتعلقت به مصائر ملايين من البشر... ولا تزال. 1- هناك شبه اجماع على ان الرئيس العراقي السابق، استناداً الى مجمل حياته ونشاطه وممارساته العسكرية والسياسية والشخصية، هو انسان شجاع وقاسٍ في آن وهو معروف بحسّه العالي بالأمن إذ يبلغ هذا الحس حدود التشكيك بالآخرين. وهو انسان عربي الأصل والأصول والهوى يجيد ركوب الخيل وحمل السلاح ويتباهى بالرجولة ويحمل آثار الذاتية القبلية. حمل في شخصيته عقدة نفسية لازمته طوال حياته وذلك بفعل نشأته في وسط وضيع وعائلة فقيرة مما خلق لديه مركّبَ نقص منذ نشأته عمل على تحويله الى مركّبَ عظمة لكي يمحو آثاره من عيون نفسه وعيون الناس في آن. وعلى عادة أبناء القبائل والقيم القبلية فقد كان انساناً كريماً يعطي من دون حساب ويهدي من دون حدود وما أكثر الذين حظوا بنعمه من أشخاص عرب وغير عرب في هذا المجال! يضاف اليه ان صدام حسين كان رجل تأمل وخيال أكثر منه رجل علم وواقعية. لهذا قيل عنه انه نموذج الحاكم الرومانسي الحالم، وأنه كما يصفه هنري كيسنجر نموذج "الحاكم النبوي" بالمعنى السياسي وليس الديني للصفة وهو بالتالي نقيض نموذج "رجل الدولة". فرجل الدولة هو حاكم لديه رؤية عقلية ذات صلة بالواقع: واقع بلده وشعبه وواقع العلاقات الدولية. أما الحاكم الرومانسي، شأن صدام حسين فيعتبر نفسه خارج الواقع بل فوق الواقع ويريد فرض ارادته على هذا الواقع حيث تنخفض لديه الى حد كبير القدرة على التوقّع ويتزايد دور الصدفة لأن غياب العمل العقلاني المبني على التصميم والتخطيط يترك الباب مفتوحاً لكل الاحتمالات والمفاجآت التي يفرزها الواقع الموضوعي. بهذا المعنى يعتبر رجل الدولة نفسه مساهماً، من خلال عقله، بصنع التاريخ ومعرّضاً في كل لحظة للوقوع في الخطأ وبالتالي فهو يجهد دائماً ويطوّر في عمله وخياراته ونشاطاته لئلا يقع في مثل هذا الخطأ أي أنه يشغل عقله، وعقول الآخرين من مساعديه، في حين ان القائد الرومانسي لديه نظرة واحدة فوقية الى التاريخ مسبقة وثابتة لا يناقش فيها ولا يغيرها لأنه لا يعترف أصلاً بإمكان وقوعه في الخطأ. وهكذا يكون أمام القائد الرومانسي خيار واحد في حين ان لدى رجل الدولة خيارات عدة ممكنة، وعليه أن يختار أفضلها ليجنب نفسه وشعبه وبلاده الكوارث! من هنا جاء قول كيسنجر الشهير: "ليس القائد العظيم في أمته هو دائماً من يحقق لها الانتصارات بل ذاك الذي يجنّبها الكوارث". 2- هذه العناصر السيكولوجية في شخصية صدام حسين أفرزت، منفردة ومجتمعة، خمسة أمور أساسية في صعوده السياسي وممارساته السياسية والعسكرية، بل إنها شكّلت الخلفية النفسية / الفكرية لمجمل تصرفاته كإنسان وقائد: الأمر الأول: أنه كإنسان حالم رومانسي رأى، ويرى، أن دوره كزعيم في العراق هو أكبر وأوسع من العراق. وهذا يفسّر الى حد بعيد علاقاته بدول الجوار العراقي، وخصوصاً سورية ثم إيران ثم الكويت. بالمناسبة ينسى كثيرون ان صدام حسين هدد عام 1975 بمهاجمة سورية بسبب الصراع على مياه نهر الفرات. الأمر الثاني: ان مركّبَ العظمة لدى صدام حسين ولّد لديه شعوراً بأنه فرصة لا تتكرّر للعراق وللأمة العربية وبالتالي عليه ان يقوم بهذا الدور الذي هو لديه أشبه بتكليف من فوق! وليس عليه بالتالي أن يجبن أو يتقاعس عن لعب هذا الدور حتى النهاية ازاء كل القوى التي تقف حائلاً أمام إتمامه: مهما كانت الظروف والصعوبات والمجازفات والمخاطر! الأمر الثالث: ان صدام، شأنه شأن كثيرين من شباب "البعث العربي" يعيش في العمق عقدة التاريخ العربي كما يشرحها ويركّز عليها خطاب البعث وهي العقدة القائمة على كون الأمة العربية وحدة قائمة موضوعية ليست بحاجة الى دليل يؤكدها وان الغرب خان الآمال العربية منذ بداية هذا القرن بتجزئة هذه الأمة الى أقطار وبالاقتطاع الاسكندرون لتركيا وبالحصار دول صغيرة تحاصر جيو - استراتيجياً دولاً كبرى. وبالزرع كيان صهيوني في فلسطين إضافة الى الاحتواء والتدجين والاستغلال للأنظمة العربية! ولهذا كان صدام يفرح بلقب بسمارك العرب. وكان القادة البعثيون يهتمون بشكل خاص بدور صلاح الدين الأيوبي كرمز لدحر الاستراتيجية الغربية في العالم العربي ولكنهم يريدونه هذه المرة "صلاحاً" عربياً وليس كردياً. الأمر الرابع: ان التأمل في حياة صدام حسين الخاصة من حيث القصور والترف تذكّر بالفيلم المصري "صعيدي في الجامعة الأميركية". فالرئيس العراقي المخلوع هو في نشأته وتربيته ومزاجه ونفسيته نتاج قبلي وهذا بارز في تصرفاته. فهو خرج من مفهوم الخيمة الى مفهوم القصور المتعدّدة ومن ركوب الخيل والجِمال الى ركوب السيارات الفخمة. وهذا الانتقال المباشر والسريع من الأقصى الى الأقصى لم يتهيأ له الوقت الكافي للمرور بالمرحلة الوسطى في تطوير فكره وممارساته ونمط حياته. لذا رأيناه في الظروف الدقيقة والصعبة، كما حصل أخيراً، يعود ليحيي نزعته القبلية ويستعين بالقبائل حيث يجد الأمان والاطمئنان أكثر. ولذا اختار ان يختبئ هناك وليس داخل المدينة! الأمر الخامس: عُرف صدام بأنه حاكم متسلّط. وتميّز أسلوبه في الوصول الى السلطة، وفي ممارستها، شأن جميع الزعماء المتسلّطين، بالمظاهر الآتية: - اعتماد الوسائل كافة للوصول الى السلطة: المشروعة وغير المشروعة، فالغاية تبرّر الواسطة أسلوب الانقلابات. - الاستيلاء على صلاحيات الآخرين وتوسيع مدى صلاحياته لتشمل أوسع مروحة ممكنة من أجهزة الدولة الأمنية والعسكرية والمدنية والاقتصادية والسياسية بالتأكيد! - السيطرة المباشرة على عصب الدولة في ثلاثة: الأمن والمال والاعلام واستثمارها داخلياً وخارجياً. - حماية الذات بشكل مطلق وحتى افتراضي وذلك بشطب وإلغاء كل شخص منافس أو بديل محتمل مدعوم من مؤسسات الداخل أو الخارج. فالسلطة رأس واحد لا رأسان. - اعتبار إرادته جزءاً من إرادة سامية لا بد من تحقيقها فوراً وبأسرع وقت ممكن، وبالتالي لا بدّ من وضع الامكانات كافة، مهما غلت في سبيل تحقيق هذه الإرادة. ومع ان بعضهم يرى في ذلك ما يشبه "القضاء والقدر" يرى آخرون ان هذا الأسلوب قد يكون في أمور انمائية واقتصادية شيئاً ايجابياً ويذكرون على سبيل المثال "إرادة صدام" بإنشاء "النهر الثالث" انطلاقاً من النهرين دجلة والفرات. وأن هذا المشروع الضخم بإنشاء مجرى نهري مائي ثالث بين جنوببغداد ومنطقة الأهوار قرب الخليج تم استكماله خلال مدة قياسية في ستة أشهر ويبلغ طول النهر الثالث 395 كيلومتراً، في حين أن غالبية الحكومات والأنظمة العربية لا تستطيع ايصال المياه الى المستهلكين في القساطل لمئات الأمتار! ثانياً: الأبعاد السياسية للاعتقال شغل صدام حسين منطقة الشرق الأوسط والمهتمين بها طوال ربع قرن من الصراعات والحروب، فطبيعي ان تكثر لدى سقوطه والقبض عليه التحليلات حول الأبعاد السياسية لاعتقاله. من هذه الأبعاد نشير الى الآتي: 1- سقوط الهالة التاريخية التي أوجدها الرجل لنفسه بما يشبه الأسطورة في عيون مريديه ومعارضيه على السواء. وتعمد الأميركيون تدمير هذه الحال بتصويره "أشبه بفأر في حفرة". 2- نشر صوره بشكل أثار اعتراض الفاتيكان بالدرجة الأولى لما فيه من إهانة الكرامة الشخصية للانسان مهما كان مذنباً، وحلق ذقنه، والتشديد على أنه لم يستعمل سلاحه أبداً تدليلاً على "جبنه"، والكلام على وجود صور ذات طابع مسيحي في حفرته... كل ذلك لتحطيم الروح المعنوية لأنصاره وذلك بتجريده من القيم الخلقية والشخصية الرجولية والدينية في آن. بمعنى آخر تحطيمه معنوياً قبل تحطيمه مادياً. 3- ان تكليف رئيس الاستخبارات الأميركية من قبل وزير الدفاع بالتحقيق معه هو أهم فصل في محاكمته. ذلك أن الولاياتالمتحدة بحاجة للوصول الى يقين أو شبه يقين في موضوع يقض مضجع الرئيس بوش ورئيس وزراء بريطانيا توني بلير وهو موضوع أسلحة الدمار الشامل. وستسعى أجهزة الاستخبارات للوصول في هذا الأمر الى نتائج محددة تتناول أموراً كثيرة، منها: من زوّده بهذه الأسلحة؟ وما هي أنواعها وكمياتها... وماذا بقي لديه منها؟ وما هي برامجها؟ وهل حقاً تم تدميرها ومتى وكيف؟ وماذا بقي منها وأين؟ وهل جرى اخفاؤها وأين، أم جرى إرسالها الى دولة أخرى ومن هي؟ يضاف اليه ويتصل به موضوع العلماء الذين يعملون في العراق والذين عملوا في صناعة أسلحة الدمار الشامل، خصوصاً في صناعة تحويل الصواريخ وتعديلها سكود وشرائها من كوريا الشمالية. وسيكون هذا الفصل أهم فصول الاستنطاق والمحاكمة لأنه يتصل بإمكانية تزويد الحركات المتطرفة بأسلحة دمار شامل من جهة، ولأنه متصل بأمن اسرائيل من جهة ثانية وهما أمران تحرص الإدارة الأميركية على اعطائهما الأولوية، ولن يكون أمام صدام سوى الاعتراف بكل شيء. وقد يكون في اعترافاته هذه الدليل الذي سعى اليه المفتشون الدوليون عبثاً... الدليل الذي "يشرعن" حرب بوش على العراق! 4- سيكون صدام بكل تأكيد خزاناً للمعلومات التي ترغب الإدارة الأميركية والعراقيون والعالم بمعرفتها حول علاقاته السرية، خصوصاً بالأنظمة والشخصيات العربية والعالمية. وكما قال أحد أعضاء المجلس الحاكم بأنه سيكشف في "محاكمة العصر" الكثير من الأسرار عن زعماء دول ومسؤولين وسياسيين ومثقفين موجودين الآن في الحكم أو في المعارضة في الدول العربية والاسلامية والشرقية والغربية. وهذه الاعترافات ستشكل من دون شك احراجاً لبعض الأنظمة العربية في الدرجة الأولى! فإذا أضفنا اليها مسألة أساسية وهي توزيع أموال العراق وثروات النفط اغراء لهذه الجهة وشراء لتلك، يأخذ الموضوع بعداً سياسياً / اخلاقياً / مالياً سيطاول من دون شك المستفيدين منه كأشخاص وأنظمة ودول ومؤسسات اعلامية. ولن يكون لدى صدام أي شيء يخفيه أو يخاف منه... بل سيحاول توريط أكبر عدد ممكن من الدول والأنظمة والشخصيات بمن فيها الأميركيون الذين عاونوه ونصروه في حربه ضد إيران لأسباب معروفة. 5- ان هذا الاعتقال هو بمثابة هدية للإدارة الأميركية فهو ينعكس إيجاباً على هذه الإدارة في اتجاهات عدة: - وضع اليد على الشخص الرئيسي الذي كان هدف الحرب على العراق. - اعطاء شحنة نفسية للإدارة الأميركية، خصوصاً بعدما أصاب قواتها في العراق من خسائر. - اعطاء معنى أخلاقي واستراتيجي للحرب أمام الشعب الأميركي. - الحصول على مكسب انتخابي للرئيس بوش إذ رفع شعبيته فوراً من 52 في المئة الى 58 في المئة. - جعل الرئيس بوش يتذوق ما سمته صحيفة "لوموند" "طعم الثأر" من رجل تحدى أميركا لمدة عشر سنوات. - تسليمه من مقرّب وشى به هو شهادة إضافية ضده من حيث لم يعد يثق به أحد. ولهذا اختار الإقامة في حفرة بعيداً عن أعين الناس! - ازدياد الأمل والطلب بالقبض على بن لادن! 6- ومن المعاني المهمة استراتيجياً في القاء القبض على الرئيس العراقي السابق ازدياد وارتفاع الثقة لدى الأميركيين أنفسهم، بأنهم ليسوا بحاجة الى أي دعم خارجي في العراق. ومن شأن هذا الأمر ان يقوّي، من جهة، خط وولفوفيتز ولائحته المشهورة حول إعادة إعمار العراق وأن يقنع الدول المترددة بالانضمام الى أميركا، من جهة ثانية، بهدف العمل لقيام عراق جديد! ثالثاً: مستقبل الشرق الأوسط بعد صدّام. هناك في الأساس بضع حقائق ينبغي الانطلاق منها: الأولى: ان لدى الولاياتالمتحدة بمبادراتها الحالية على الأقل، رؤية وربما رؤى لمنطقة الشرق الأوسط. الثانية: ان وجود صدام حسين على رأس العراق بمواقفه وتوجهاته و"مخاطره" كان عقبة أمام تحقيق المخطط الأميركي لمستقبل المنطقة. لهذا فإن إزاحته بالشكل الذي تمّ تفتح الطريق واسعاً أمام العمل لتنفيذ هذا المخطط. الثالثة: ان الشرق الأوسط هو من المناطق في العالم التي يشكّل مصلحة حيوية للولايات المتحدة التي تملك كل عناصر القوة المادية والمعنوية ما عدا عقب أخيل... وهو النفط المتواجد في الشرق الأوسط بنسبة ثلثي الاحتياط العالمي والذي يشكل العراق مع المملكة العربية السعودية، ساحته الرئيسية. الرابعة: ان القوى المتطرفة التي هاجمت أميركا في 11 أيلول سبتمبر 2001 جاءت من الشرق الأوسط بناء على افتاء اجتهادي معيّن له بعض الأنصار، وليس عليه إجماع. الخامسة: ان المرحلة الحالية هي مرحلة أفول الايديولوجية القومية واليسارية وبروز الايديولوجيا الاسلاموية بمختلف تياراتها: الاسلام التقليدي، والاسلام السلفي طالبان و"القاعدة" وجماعة التكفير والهجرة والاسلام الاصلاحي في إيران وواضح ان السلفيين يتوخون الاصلاح أيضاً ولكن بالعودة لاستعادة الماضي ومحاكاة النموذج الاسلامي الأول عهد النبوّة والخلفاء الراشدين في حين ان الاصلاحيين يأملون بتحقيق بناء المجتمع الاسلامي الجديد بالتطور والابداع في موازاة الاصلاح الغربي النهضة والحداثة بالمفهوم الغربي. تدرك الولاياتالمتحدة الأهمية المركزية لموقع العراق ودوره في اعادة صياغة الشرق الأوسط، فهو كما وصفته "لوموند": "بلد جدير بحمل رسالة الحداثة الى دول المنطقة لأنه يحوى ثروتين كبريين: البترول وتراث ما بين النهرين". ولهذا فإن لبلاد الرافدين دوراً أساسياً تقوم به "شرط" أن تتبنى المبادئ والقيم التي يطرحها الغرب وعلى رأسه الولاياتالمتحدة. وهي قيم، في الفهم الأميركي، مطروحة للأخذ بها، وليس للجدل في شأنها. وخلفها ودعماً لها تضع الولاياتالمتحدة كل ثقلها السياسي / العسكري / الاقتصادي / المالي فتهدد الأنظمة والدول والحركات، وتضع الشروط ولوائح الاتهام، وكلها تحت لافتة "محاربة الارهاب"، حسب "الأجندة الأميركية". وإذا كان لنا ان نشير الى الملامح الأساسية للشرق الأوسط الجديد من حيث المبادئ بطبعتها الأميركية لوجدناها تندرج تحت العناوين الآتية: وكل عنوان يصلح لبحث منفرد: 1- الديموقراطية باعتبارها "اختياراً حراً للحاكمين من قبل المحكومين يتم خلال فترات منتظمة" فلا وجود ولا معنى للديموقراطية إذا لم تكن ممنوحة ومجددة بفعل الاختيار الحر من جهة أولى، وإذا لم يكن للغالبية الكبرى من الشعب الحق بالانتخاب من جهة ثانية، وإذا لم يكن للشعب الحق بسنّ قوانينه لمصلحة المجتمع من جهة ثالثة، وإذا لم تحقق، بالإضافة الى حكم الأكثرية، ضمانة للأقليات من جهة رابعة. 2- التعددية بكونها عامل الاغناء والتفاعل والحوار الخلاق في كل نهوض فكري / ثقافي / سياسي. 3- التنمية والتحديث واقتصاد السوق كخيار ليبرالي في الأمور الاقتصادية / المالية. 4- محاربة التطرف وذلك بإدخال تعديلات أساسية على البرامج والمناهج التعليمية. 5- "القبول والعمل" بالقاعدة القائلة ان النفط مادة استراتيجية ترتبط بها الحضارة الغربية وبالتالي لا بد من ان يكون لأميركا الدور الأول والحاسم في السيطرة على منابع النفط، وتأمين تدفقه الى الغرب بحرّية، وتحديد سعره المناسب للاقتصاد المعولم بحيث لا تكون "أوبك" كارتيلاً يعمل ضد مصالح أميركا. 6- تحقيق السلام بين العرب واسرائيل وذلك من ضمن مبدأ القبول بالآخر، وتنشيط ثقافة السلام على حساب ثقافة الصراع والحرب والعنف والقبول بوجود دولتين داخل فلسطين التاريخية: دولة فلسطين ودولة اسرائيل من ضمن خطة، آخر طبعة منها هي "خريطة الطريق". 7- العمل على حظر أسلحة الدمار الشامل النووية والكيماوية والبيولوجية وكذلك الصواريخ البالستية القادرة على حملها الى أهدافها، ليس فقط خشية من امكانية استعمالها من جانب دول المنطقة، بل أيضاً خوفاً من وقوعها في أيدي القوى المتطرفة التي تصفها أميركا ب"الارهابية". 8- أخيراً، لا آخراً، احترام حقوق الانسان على اعتبار انها هي الشرعة "الرسمية" للعالم في العصر الحديث وأنها البديل لميثاق الأممالمتحدة. ولذا فإن عصر احترام السيادة القومية والوطنية للدول أصبح من الماضي وأن العصر الأميركي بامتياز يعطي لنفسه الحق باعتماد الحرب الوقائية والحرب بكل بساطة، دفاعاً عما يراه ويعتبره خرقاً فاضحاً لحقوق الانسان! هذه هي المبادئ والأسس والتوجهات التي تطرحها الولاياتالمتحدة لتبرير نظرتها الى الشرق الأوسط، بل أكثر من ذلك لتبرير عملها الحثيث سياسياً وعسكرياً لإعادة صياغة هذه المنطقة على أسس وقواعد جديدة. رابعاً: الشرق أوسطية أو الشرق الأوسط الجديد طرحت فكرة الشرق أوسطية بقوة في أوائل التسعينات 1992 - 1993 وها هي الآن تطرح من جديد بعد أحداث العراق، بل انطلاقاً من الوضعية العراقية بالذات. والسؤال - الاشكالية هو: كيف ستكون صورة الشرق الأوسط بعد انهيار نظام صدام حسين وقيام معادلات سياسية جديدة في المنطقة، جديدها الأبرز دخول القوات الأميركية مباشرة الى ساح الصراع في مرحلة تضع أميركا في حسابها فرض هيمنتها الأحادية ليس على الشرق الأوسط فقط بل على العالم؟ هناك اعتراف ثابت بثلاث حقائق مترابطة: أولاها: الرغبة الأميركية في الهيمنة على الشرق الأوسط كمنطقة نفوذ حيوية. ثانيتها: وجود أزمة وجودية وبنيوية داخل النظام العربي العام. ثالثتها: السعي الى قيام أنظمة اقليمية بديلة للنظام العربي العام المريض، ومنها النظام الشرق - أوسطي. ويمكن اعتبار العراق بالنسبة الى الأميركيين مختبراً ومدخلاً الى قيام مثل هذا النظام الاقليمي الشرق - أوسطي الذي يتشكّل ضمن عناصر دولية أربعة: - قلبه المشرق العربي. - جناحاه دول الجوار العربي إيران وتركيا وأثيوبيا. - احدى رئتيه "اسرائيل". - رأسه الولاياتالمتحدة. بهذا المعنى يكون المشرق جزءاً من هذا النظام. فهو في تركيبته النهائية يتمحور حول الخارج من حيث أمنه العسكري واستغلال موارده النفطية والمالية وتحت لافتة تحقيق التنمية الاقتصادية واحتذاء النموذج الأوروبي شريطة ان يكون تتويجاً للسلام بين العرب واسرائيل وهو أمر بعيد المنال في المدى المنظور. واذا كان السعي لإقامة مثل هذا النظام أمراً ثابتاً ومؤكداً في الاستراتيجية الأميركية، فإن الموقف العربي يتميز بالتردد الذي يصل أحياناً الى حد الضياع. بمعنى آخر: لم يتم حتى الآن، حد أدنى من التفاهم بين القوى العربية المعنية دول المشرق العربي ومصر حول الموقف من هذا النظام: هل هو مرفوض أم مقبول أم بين بين وما هي شروط القبول به، وهل يمكن تحقيق مثل هذه الشروط في أوضاع العرب الحالية وهم يواجهون هجمتين في آن: أميركا من جانب واسرائيل من جانب آخر؟ وهل لديهم القدرة على اتخاذ القرارات الصعبة في المسائل الاقتصادية والسياسية والأمنية التي يطرحها مثل هذا النظام؟ وهل يكفيهم ويكفي الشعوب العربية تكرار فكرة "التآمر" الأميركية - الاسرائيلية من دون تقديم البديل لهذه المؤامرة؟ ان قراءة بعض المؤشرات السياسية تبين مدى جديّة الطرح الشرق أوسطي وهو طرح تبنّته الإدارة الأميركية علناً بقولها "بضرورة اعادة صياغة الشرق الأوسط" ومن ثم من خلال "العراق الجديد". هذه المؤشرات برزت من خلال مواقف بعض القوى الاقليمية: - فسورية تجهد في الاتصال بزعماء القبائل العراقية كي تكون ورقة بيدها ودعماً لها وتفتح الباب أمام اعادة المفاوضات مع اسرائيل. - الأردن يأخذ جانب الدفاع عن سنّة العراق "المهزومين" بسقوط صدام ويدعو سورية علناً لضبط التسلل من حدودها الى العراق. وأظهر الجدل والاتهام اللذان تبعا مثل هذه الدعوة بين سورية والأردن اختلافاً أردنياً - سورياً حول ما يجري في العراق وهو في الحقيقة الوجه الخارجي لصراع استراتيجي أعمق، خلاصته: ما الذي ستكون عليه مهمة كل من دمشق وعمان في نطاق الشرق الأوسط الجديد، وتحديداً في تقرير مصير العراق بل في مصير المنطقة الواقعة بين جبال زغروس في الأطراف الشرقية الشمالية للعراق وعريش مصر أي في الهلال السوري الخصيب؟! - ان اللقاء الذي تم اخيراً في جنيف بين الرئيس المصري حسني مبارك والرئيس الإيراني محمد خاتمي ليس صدفة أبداً. بل هو جزء من رؤية استراتيجية لدور كل من هذين البلدين الاسلاميين الكبيرين بثقلهما السنّي مصر، والشيعي إيران، في اعادة صياغة منطقة الشرق الأوسط من جهة وفي منع مفاعيل الصراع السنّي - الشيعي الذي يمكن ان ينطلق من أي مكان، خصوصاً من العراق، لخلق محور صدام سنّي - شيعي بين المتوسط والخليج. - حتى في لبنان بالذات، فإن قيام عمليتين عسكريتين في بلدة حورتعلا البقاع وفي الضاحية الجنوبية وهما معقلان معروفان ل"حزب الله"، يمكن اعطاؤهما مدلولاً سياسياً أقله تأكيد السير في التوجه الأميركي "لضبضبة" ما تعتبره أميركا قوى نافرة ومناهضة داخل الحيّز الجغرافي الشرق - أوسطي! 5- ان قيام هذا الشرق الأوسط الجديد، إذا تم قيامه في ضوء تحقيق تسوية بين الدول العربية واسرائيل، وهذه لا تزال مجرّد فرضية يصعب وربّما يستحيل تحقيقها في ظل حكومة آرييل شارون، فإنه سيأخذ في الاعتبار الدروس المستفادة من التجربة العراقية: أي الخروج من نظام الدولة التوحيدية المستبدّة الى نظام الدولة التعدّدية. ومثل هذا التوجه يفتح الباب واسعاً أمام صيغة جديدة للشرق - أوسطية هي الصيغة الفيديرالية. كثُر الحديث في الماضي عن امكان قيام كونفيديرالية أردنية - فلسطينية - اسرائيلية. واليوم بدأ الهمس بل الحديث عن امكان قيام كونفيديرالية تجمع بين العراق وسورية والأردن ودولة فلسطين. وتسهيلاً للتصوّر هناك من يدعو الى قيام مجلس تعاون مشرقي على طريقة مجلس التعاون الخليجي. فبمثل هذه الصيغة تحلّ أمور كثيرة من العراق وصولاً الى فلسطين ويمكن من خلاله إقامة توازن دقيق بين القوى الأساسية في هذه المنطقة وهي القوى السنّية والشيعية، وهو توازن تحرسه إيران في الشرق وتركيا في الشمال ومصر في الغرب والمملكة العربية السعودية في الجنوب، وتحرسه الولاياتالمتحدة في ظل تفاهم عربي - اسرائيلي على الأرض والأمن والحدود والمياه والقوى واللاجئين بحيث تقوم في المنطقة "جماعة اقتصادية شبيهة بالجماعة الأوروبية فيها بنك خاص للتعمير وسلطة عليا للمياه ومنطقة تجارة حرة". والخلاصة ان من يسيطر على بترول العراق يسيطر على العراق. وبالتالي يمكن ان يصبح العراق، بعد صدام، مدخلاً لنظام اقليمي شرق أوسطي لا يلبي الطموحات القومية للعرب وإنما يستثير الطموحات الاقتصادية ويعطي صورة جديدة عن مفهوم الممارسة السياسية في الأنظمة العربية. ففي مقابلة أجرتها احدى الفضائيات العربية مع عضو في المجلس الانتقالي العراقي، بعد اعتقال صدام حسين، سأله المذيع: هل أنت مع اعدام صدام حسين؟ أجاب فوراً: كلا. وعندما سأله المذيع: لماذا؟ أجاب: لأنني لا أريد لصدام حسين ان يموت قبل ان يرى العراق الجديد الديموقراطي الحر الذي هو النقيض لعراقه بالذات!