منذ انتهاء الحرب الباردة، وبخاصة مع انهيار الاتحاد السوفياتي ذاته وتدمير القوة العسكرية العراقية في حرب الخليج الثانية، كان هناك إدراك مصري على مختلف المستويات الرسمية والفكرية للدور القيادي للولايات المتحدة في النظام العالمي الجديد، ومن ثم لحدود الحركة المتاحة أمام مصر كدولة صغرى في هذا النظام. وقد عبر الرئيس مبارك عن هذه الحقيقة بجلاء في كانون الثاني يناير 1993 بقوله: "إننا أمام فوضى دولية عالمية جديدة وليس نظاماً عالمياً جديداً. فسياسة التأرجح بين الولاياتالمتحدة، والاتحاد السوفياتي انتهت، واليوم لم يعد هناك سوى قوة عالمية واحدة يجب أن نتعامل معها من دون المساس بكرامتنا واستقلالنا". والولاياتالمتحدة استهلت هذا النظام العالمي بترجمة وضعها الجديد في منطقة الشرق الأوسط بقيادة عملية السلام بين العرب وإسرائيل، التي انطلقت من مؤتمر مدريد في تشرين الأول اكتوبر 1991، واستبعاد أي دور للأمم المتحدة في هذه العملية، علاوة على تهميشها الدور الأوروبي فيها بحيث يقتصر على دور المموّل فقط لاتفاقات السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين. بل حرصت على أن تظهر بمظهر الراعي لكل ما يتم انجازه في عملية السلام بغض النظر عن إسهامها الفعلي في هذا الشأن، مثلما حدث لرعايتها توقيع اتفاق أوسلو في البيت الأبيض في ايلول سبتمبر 1993، رغم أن هذا الاتفاق تم بالتفاوض السري بين الفلسطينيين والإسرائيليين بوساطة نروجية. وتمكنت الإدارة الاميركية عبر وسائل الترهيب والترغيب من تحقيق بعض الانجازات في عملية السلام، وبخاصة ما يتصل منها بعقد معاهدة السلام في 1994، وإن كان أصابها الاخفاق في ما يتعلق بالمسار السوري - الإسرائيلي. وجاءت هذه الجهود الاميركية لإحلال السلام منسقة مع السعي الأميركي - الإسرائيلي المشترك للانتقال بالشرق الأوسط، بواسطة عملية السلام، من شرق أوسط ذي هوية صراعية عربية - إسرائيلية الى شرق أوسط جديد ذي هوية تعاونية عربية - إسرائيلية اقليمية. وهو ما تُرجم في محاولة اقامة سوق شرق أوسطية تلعب فيها إسرائيل الدور الرئيسي. ومع هذا فإن الدور الأميركي في عملية السلام تتعرض للانتقاد من جانب كثير من الدول العربية وبخاصة على المستوى الفكري والشعبي لإنحيازه الواضح نحو إسرائيل، إذ لم تسع الولاياتالمتحدة الى الضغط عليها سواء لتنفيذ ما تم الاتفاق في شأنه بين الفلسطينيين والإسرائيليين أو تقديم تنازلات إسرائيلية وفق مبدأ الأرض مقابل السلام. ولكنها تبنت وجهة النظر الإسرائيلية في كثير من الحالات والقضايا مثلما حدث بالنسبة الى أزمة المبعدين الفلسطينيين في أوائل 1993، وقضية القدس، ومذبحة قانا، وانضمام إسرائيل الى معاهدة الأسلحة النووية. ففي كل هذه القضايا رفضت الإدارة الاميركية انتقاد الممارسات الإسرائيلية أو ممارسة الضغوط عليها، بل استقبل الكونغرس نتانياهو بحفاوة بالغة صيف 1996 لدى زيارته الأولى لواشنطن، رغم تشديده على اللاءات الثلاث المتمثلة في رفض الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة، رفض تقسيم القدس، رفض الدولة الفلسطينية. ومنذ ذلك الحين أصيب الدور الأميركي بالجمود والشلل في عملية السلام، ما دفع التيارات السياسية المصرية كافة الى الوقوف ضد سياسة واشنطن في الشرق الأوسط، خصوصاً مع استمرار رفضها قيام الاتحاد الأوروبي بدوره في عملية السلام من منطلق أن "كثرة الطباخين تفسد الطبخة"، وفق تعبير وارن كريستوفر، وخشية أن يؤدي ذلك الى تشجيع الأطراف العربية على التصلب أمام التوجه الأميركي. ومن هنا كان من الطبيعي إزاء جمود عملية السلام وعجز الراعي الاميركي عن القيام بدوره، أن تواجه السياسة الأميركية في المنطقة بعض التحديات في إطار مسعاها لإعادة تشكيل خريطة التفاعلات الاقليمية، نتيحة للضغط الشعبي في كثير من الدول العربية الرئيسية على قياداتها السياسية، ما وضع حداً لمسايرة القيادات العربية للضغوط أو السياسة الأميركية في المنطقة. واتضح ذلك بجلاء في الموقف الشعبي الرافض لأية ضربة أميركية للعراق إبان الازمة الأخيرة بين الولاياتالمتحدة وبغداد. وعكس المثقفون المصريون، باتجاهاتهم وانتماءاتهم السياسية المختلفة، هذا الشعور العربي العام، إذ انتقد محمد سيد أحمد مادلين أولبرايت لعدم وضعها قضية الشرق الأوسط ضمن أولويات أجندتها السياسية، أسوة بمن سبقوها في هذا المنصب. فهي لم تزر المنطقة إلا بعد عام تقريباً على تسلمها منصبها رغم حال الجمود والإحباط السائدين لدى الأطراف العربية المشاركة في عملية السلام، كما حمّل السياسة الأميركية، في هذا الشأن، مسؤولية فشل عملية السلام. وذهب سيد أحمد في تحليله الأزمة بين الولاياتالمتحدةوالعراق الى القول بأن أي قرار أميركي لضرب العراق سوف يعد بمثابة الشرارة لإنطلاق مشاعر معادية لأميركا على اتساع الأرض العربية مماثلة لتلك التي سادت في أعقاب حرب حزيران يونيو 1967، إذ سيتم تصوير الأمر كما لو كان حرباً أميركية - إسرائيلية ضد العرب عموماً وليس ضد العراق تحديداً. ورأى أيضاً أن السلام كخيار استراتيجي تتبناه الدول العربية لا يمكن أن يستقيم ما لم يُطرح في إطار نظام عالمي متعدد الأقطاب، وإلا فإنه سيكون مجرد شعار يفقد محتواه ويصبح غطاءً لعملية تنفرد الولاياتالمتحدة وإسرائيل بتوجيه مقدراتها وجني ثمارها. أما لطفي الخولي فإنه لا يختلف كثيراً عن التحليل السابق في شأن عجز الراعي الأميركي عن القيام بدوره في عملية السلام، ولكنه يحلل السياسة الأميركية في الشرق الأوسط من منظور الصراع على قيادة النظام الدولي بين الولاياتالمتحدة التي تسعى للإبقاء على قيادتها له والأطراف الأخرى التي تسعى لتعزيز مواقعها فيه. ومن هنا فإنه يعتبر الأزمة العراقية بمثابة الاسم الرمزي وميدان الصراع الجديد المرئي لمعركة الولاياتالمتحدة في ما خص استمرار انفرادها بقطبية النظام الدولي في مواجهة محاولات روسية وأوروبية وصينية ويابانية للزحف من أجل احتلال مراكزهم القطبية. ومن ثم فإن تشددها تجاه العراق وتهديدها بضربه عسكرياً، حتى من دون الحاجة الى استصدار قرار جديد من مجلس الأمن، إنما هو محاولة لإثبات وجودها، ورسالة لها مغزاها لتلك الأطراف الطامحة نحو مشاركتها قيادة النظام الدولي. أما سلامة أحمد سلامة فيلفت النظر الى ذلك التحالف بين اليمين الإسرائيلي واليمين الأميركي في الكونغرس، والذي يعمل على تخريب السياسة الأميركية في الشرق الأوسط وإثارة جو من الشكوك، يوحي بفقدان واشنطن قدرتها على القيام بدور الوسيط النزيه في عملية السلام. وما يساعد على ذلك تلك اللعبة المزدوجة التي تمارسها الإدارة من ناحية، والكونغرس من ناحية أخرى، والتي اصبحت تميز نمط سياسة واشنطن في الشرق الأوسط. ويرى سلامة ان المشكلة الحقيقية التي تواجه عملية السلام في المنطقة تكمن في أن المخططين لهذه السياسة في واشنطن يتحدثون بلسانين ويحملون ولاءين، ابتداء من أولبرايت مروراً بدنيس روس منسق عملية السلام، وانتهاء بالسفير الأميركي لدى إسرائيل. ومن ثم كان طبيعياً أن تصل السياسة الأميركية في الشرق الأوسط الى مرحلة من الإفلاس والانهيار لم تصل إليها من قبل. أما اسامة الغزالي حرب فيرى في التدليل الأميركي لإسرائيل تشجيعاً لقادة الدولة العبرية على عدم القبول بالحلول الوسط، بخاصة أن جوهر التوجه الإسرائيلي والأميركي يقوم على توهم إمكان تحقيق السلام في ظل تمتع إسرائيل بتفوق عسكري مطلق على البلدان العربية، بما في ذلك احتكار القوة النووية في المنطقة، مشيراً الى أن هذا التوجه لا يتضمن سوى الاخلال الجسيم بتوازن القوى في المنطقة وتهديد أمن الدول العربية. ولكن ما يلفت النظر في تحليل الدكتور حرب للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، هو أنه يرى سياسة وزيرة الخارجية أولبرايت إزاء عملية السلام لا تمثل خروجاً على الخصائص العامة للدور الأميركي تاريخياً تجاه تسوية الصراع العربي - الإسرائيلي. ذلك أن أي ضغط أميركي على إسرائيل دائماً ما كان يأتي متأخراً جداً من حيث توقيته بعد أن يكون السلوك الإسرائيلي قد وصل الى اقصى مداه، أي بعد أن تكون الدولة اليهودية أحرزت اقصى ما يمكن أن تحصل عليه من مكاسب في القضية موضوع النزاع. وأما جمال بدوي رئيس تحرير "الوفد"، جريدة حزب الوفد المعارض، فيحلل السياسة الأميركية في المنطقة من منظور السعي الى تكريس التفوق الإسرائيلي سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. وهو يشير الى أن السياسة الأميركية في ظل إدارة كلينتون اختلطت بالسياسة الإسرائيلية، حتى أنه أصبح من الصعب تحديد خطوط فاصلة بين الطرفين، ذلك "أن هذه السياسة تسير مغموضة العينين وراء المصالح الصهيونية وتضر بالمصالح الأميركية ذاتها حيث وقعت في شرك كوهين وشارون ونتانياهو وأولبرايت ومَنْ خلفهم من زعماء الصهيونية العالمية، ولذا فإن السياسة الأميركية في المنطقة لا تعدو أن تكون أداة لتنفيذ مخطط الصهيونية القديمة في إنشاء إسرائيل الكبرى من النيل الى الفرات. وعلى هذا الأساس يمكن فهم السلوك الأميركي ضد العراق وليبيا ومصر بعد رفضها حضور مؤتمر الدوحة، إذ أصبح الهدف الأميركي من ضرب العراق هو إحالة العراق على الاستيداع بعد تدميره عسكرياً ومعنوياً وحرمان العرب من ذلك الرافد العراقي إذا حدثت مواجهة مع إسرائيل". أما فهمي هويدي وعادل حسين، وهما يمثلان التيار الإسلامي، فلا يختلفان كثيراً عن رؤية جمال بدوي. إذ يرى هويدي أن السياسة الأميركية تجاه العراق تحركها رغبة دفينة في القضاء على ما بقي من قوة العراق العسكرية لضمان التفوق العسكري لإسرائيل، خصوصاً أن واشنطن لم تعد بحاجة الى دور صدام حسين بعد أن ثبتت أقدامها في المنطقة، مشدداً على محاولة واشنطن تغطية عجزها في عملية السلام بالسعي الى ضرب العراق. ويؤكد كل من عادل حسين وفهمي هويدي على أن الهدف الحقيقي وراء تصعيد الولاياتالمتحدة لسياساتها ضد العراق، يكمن في رغبتها استرداد هيبتها في المنطقة بعد فشل مؤتمر الدوحة الاقتصادي لرفض بعض الدول العربية الرئيسية مثل مصر والسعودية حضوره، ونجاح مؤتمر القمة الإسلامي في طهران ما يُعد ضربة للسياسة الأميركية في المنطقة. وهذا علاوة على رفض كثير من الدول العربية، ومنها بعض دول الخليج، استخدام أراضيها في الهجوم على العراق. ومن هنا فقد أرادت واشنطن إبلاغ الجميع بأنها ما زالت السيد الذي يجب أن يطاع، وأن التمرد على رغبتها يكلف الآخرين الكثير. وانفرد عادل حسين من بين المحللين المذكورين بالدعوة الى تكوين حلف عربي - إيراني لمواجهة الحلف الأميركي - الصهيوني، وفق تعبيره، لإحباط مخططه لإنشاء إسرائيل الكبرى وتدمير القدرات العربية والإسلامية. نخلص مما سبق الى أن هناك توحداً في الرؤية في العقل السياسي المصري بمختلف مشاربه تجاه السياسة الأميركية في الشرق الأوسط. وهذا يعني، في التحليل الأخير، أن الإدارة الاميركية مطالبة الآن اكثر من أي وقت مضى بتعديل مسار سياستها في المنطقة بما يتفق والمصالح المشروعة لمختلف الأطراف، في الأمن والسلام، حتى تسترجع بعض ما فقدته من ثقة لدى الرأي العام العربي والعقل السياسي العربي، وبما يتناسب مع دورها ومكانتها في النظام الدولي ومصالحها في المنطقة، لأن المركب إذا غرق، غرق الجميع ولم يغرق طرف دون آخر، بما في ذلك المصالح الأميركية ذاتها.