تعكس بنود جدول اعمال اجتماعات الرئيس الاميركي بيل كلينتون وعدد من القادة العرب والتي ينتظر ان تتوالى خلال الربيع المقبل عنصرين رئيسيين: أولاً: نوع العلاقة الشخصية بين كلينتون وكل قائد عربي سيقابله. وعلى رغم ان العلاقة الشخصية قد لا تكون الفيصل الرئيسي في تكييف المصلحة القومية للطرفين، الا انها تلعب دوراً مهماً في تقييم كل منهما للاعتبارات السياسية والموضوعية التي يطرحها، تفسيراً لسياستها او تبريراً لها. وكلينتون تخرج سياسياً من الشارع السياسي للحزب الديموقراطي، وانتقل من تياره الأيسر الى تيار الوسط، ولكنه يرى العالم بمنظور شعبي انساني، شرط ان يحقق له ذلك المصلحة القومية والسياسية كما يتصورها، وهو في ذلك يختلف عن الرئيس السابق بوش الذي تولد سياسياً في دهاليز اجهزة الحكم والرئاسة والمخابرات، فكان يجيد التعامل مع تلك الاجهزة، ولكنه بالمقابل لم يشعر بإحساسات الناخبين ونبضهم السياسي والاجتماعي. كلينتون يؤمن بالعمل الشعبي وقدرة هذا العمل السياسي بالمثابرة وتوليف الائتلافات واحكام الشبكات الاتصالية وصولاً الى قاعدة من المصلحة المشتركة لوضع برنامج انتخابي ناجح. وفي منظوره للقادة العرب سيدخل هذا العنصر الشعبي والتوفيقي في معايير حكمه على شخصية زائره العربي ويحاول ان يسبر غور قدرة كل قائد عربي على قيادة شعبه. واذا شعر كلينتون بأن القيادات العربية جادة وفعالة وقادرة على قيادة عملية التنمية والتجديد على المستوى الشعبي والانساني فإن تقديره لمحددات السياسة العربية سيكون اكثر عمقاً وانسجاماً. واذا تم ذلك فلن تستطيع اسرائيل واسحق رابين على وجه التحديد ان تنفرد بالرئيس الاميركي وتضع على بصره نظارة اسرائيلية قاتمة تشوه سلبيات العرب وتطمس ايجابياتهم في العبور بشعوبهم في مرحلة صعبة من التغيير السريع والتنمية الشاملة. إن ادراك كلينتون الشخصي لصعوبات مرحلة الانتقال بالدول العربية الى آفاق المعاصرة والتجديد وتقديره للجهود والعقبات التي تواكب هذه المرحلة سيضيفان بعداً جوهرياً لم يكن وارداً في عهد بوش، ولكنه اصبح اليوم جزءاً لا يتجزأ من ذبذبات الموجات الرئيسية لعملية الاتصال والتواصل في عالم اليوم. والحلف الذي يسعى اليه كلينتون ليس مجرد حلف عسكري بل انه يسعى الى انشاء ائتلاف فعال للبناء والتعاون في اطار موازين الامن والمصلحة. كلينتون لن يفرض على العرب الديموقراطية والقانونية وسيادة القانون، فهذه عناصر تغلف ديناميكية السياسة، وهو يعلم جيداً ان المصالح الثابتة والملموسة والمحسوسة تأتي في المقام الاول الا ان فهمه للمصالح وتقديره للقيم القيادية وللمواهب السياسية تشمل من دون ادنى شك مجموعة عناصر تعبر عن الوعي الجديد بقيم العالم الجديد والتي أخذت جوانبها تتبلور وتقاطيعها تبرز في عملية ميلاد دولي جديد. العراقوايران ثانياً: الحوار السياسي القائم على ايجاد ساحات مشتركة من المصالح القومية للطرفين. هذا الحوار الذي يسعى الى اكتشاف مساحة المصالح المشتركة للجانبين واستثمار هذه المصالح بالتوسيع والتعميق والتفاهم حول الوسائل والآليات الكفيلة بتحقيقها في عالم اليوم، وبتكلفة تتماشى مع قيمة هذا الاستثمار السياسي والاقتصادي ومع قدرة الاطراف على تحمل هذه التكلفة. هذا الحوار يبنى على وجود مصالح قومية واضحة لكل طرف في عالم سريع التغير والتبدل داخلياً وخارجياً. ان التغيير في ادارة السياسة الاميركية يطرح على الرئيس الاميركي تحدياً ليس من السهل ايجاد الردود الجاهزة عليه لان الصالح القومي عنصر متجدد ومتحرك داخل اطار من المحددات التي تؤثر على بلورة الاختيارات والبدائل. الرئيس كلينتون يواجه عالماً جديداً هو "عالم ما بعد الحرب الباردة"، وعلى رغم ان الولاياتالمتحدة اصبحت تقبض على ناصية ميزان القوى الرئيسي الذي اصبح عملياً أحادي القطبية، الا ان هذا العالم الجديد يواجه تحديات ومشاكل لم تظهر في نظام القطبية الثنائية أيام الحرب الباردة. ففي المسرح النووي لا يزال الروس يحتفظون بالندية مع واشنطن، ولكن اتفاقيات ضبط السلاح النووي بين القطبين جعلت المسرح النووي اكثر تعقيداً، فظهرت اقطاب نووية لا تقل عن ست دول لديها قدرات نووية وقدرات اخرى مختلفة ومتباينة بنقل هذه العناصر النووية الاستراتيجية والتكتيكية وتحويلها الى اهداف سياسية، ومن هنا كان الهاجس الرئيسي هو محاولة ضبط الانتشار النووي وخلق توازنات لتحييده اذا لم تضبط عملية الانتشار، هذا البعد له انعكاسات ودلالات على فهم كلينتون لقضايا الشرق الاوسط وكيفية معالجتها في اطار لا يخل بعملية السلام او يهدد دول المنطقة خصوصاً اسرائيل، بالخطر. وسيسأل كلينتون زائريه العرب عن تصورهم المرحلي والتكتيكي ورؤيتهم النهائية لجعل المنطقة خالية من اسلحة الدمار الشامل. كما سيبحث معهم التداخل في تركيبة الاسلحة المدمرة خصوصاً معاهدة الاسلحة الكيماوية وامتناع بعض العرب على الانضمام اليها على رغم اعلانهم الالتزام بمبدئها. هذا المدخل يدخل مباشرة الى مشكلة ايران ومشكلة العراق، والمفهوم الاميركي لكلتا المشكلتين يدور حول محورين رئيسيين: المحور الاول: هو ان تقوم ايران او العراق او اي تحالف يمكن ان ينشأ بينهما في عراق ما بعد صدام بمحاولة فرض الهيمنة على المنطقة بالتدخل العسكري المباشر او غير المباشر وبالتحرش والقلقلة. المحور الثاني: هو قيام ايرانوالعراق او اية دولة اخرى بنشر اسلحة الدمار الشامل، خصوصاً الانتشار النووي، وزعزعة الامن والاستقرار في المنطقة عن طريق تشجيع وتصدير حركات متطرفة تستخدم العنف، سواء كانت قومية او دينية او خليطاً منهما، الامر الذي يهدد استقرار الدول العربية واسرائيل ايضاً. هناك محور ثالث، وهو محور تكتيكي: ماذا نفعل اليوم مع صدام حسين وكيف نشجع تحركات سياسية تفرض عليه الاعتدال؟ واذا كان الرئيس العراقي أوقع نفسه وبلده في شباك التدخل الدولي بالرقابة والتفتيش ومناطق الامن الجوي، الا انه لا يزال يمثل مصدراً للقلاقل على رغم انه لم يعد يمثل تهديداً استراتيجياً في الأمد الحالي او المتوسط. والسؤال محير، ولكن الحيرة الاميركية تبدو مضاعفة حين لا تستطيع الدول العربية الشقيقة للعراق ان تلم بما يجري ما بين النهرين. والأدهى انه ليس هناك تصور عربي واضح "لعهد ما بعد صدام" وهل يمكن لحزب البعث العراقي ان يفرز غورباتشوف العراقي من داخله؟ ولا يقبل خبراء الشرق الاوسط الاميركيون شعار "عدم تجزئة العراق" وكأنه يحمل الاجابة الواقعية على هذه الاشكاليات. كلينتون لن يفرض على العرب الا العموميات المعروفة للمصالح القومية الاميركية القائمة وهو يريد مجموعة من المساهمات العربية لايجاد نظام يسود المنطقة عربياً وشرق أوسطياً. والجو الاميركي العام لا يسمح للولايات المتحدة بأن تصبح "الشرطي اليومي" او رجل الدرك العادي، فتلك مهمة على العرب وعلى دول المنطقة غير العربية، الوصول اليها وتلعب الولاياتالمتحدة دور المشجع لهذه الدول. وفي ظني ان كلينتون يريد ان يسمع الطروحات العملية العربية وليس مجرد كشوف الاحتجاج من المظالم والاوجاع التاريخية لانه يعتقد ان قيام تفاهم فعال هو العلاج الوحيد لحالات عدم التوازن وعدم الاستقرار. ان على القادة العرب، كأفراد او مجموعة ان يضعوا تصوراً عملياً ممكناً يتداخل بمساحة من المصلحة المشتركة مع المصلحة الاميركية والدولية لان هدف كلينتون - وان كانت تفاصيله لم تتبلور بعد - ايجاد ائتلاف عربي وشرق اوسطي يحترم المصالح المشروعة للاطراف ويطرح مساحة من المصلحة المشتركة لها. ان مصالح اميركا الاستراتيجية لا تواجه في الامد القصير المخاطر. فلا ايران ولا العراق ولا بعض الحركات المتطرفة تهددها من منظور موازين القوى الواقعية ولكن كلينتون يفضل ان يحقق هذه المصلحة بأقل النفقات سياسياً وانسانياًً بالنسبة الى الولاياتالمتحدة. ومن هذه الاولوية الواضحة سيكوّن رؤيته ويبلور بدائل سياسته نحو المنطقة والقضية الفلسطينية والانتشار النووي، ولن يسمح للمفاجآت السياسية - مثل مشكلة المبعدين الفلسطينيين - ان تبعده عن خطوط سياسته الرئيسية. ستسعى الولاياتالمتحدة بقيادة كلينتون الى قيام ائتلاف من الدول الصديقة العربية، بالتوازي مع العلاقة الاستراتيجية القائمة مع اسرائيل والعلاقة الوثيقة مع تركيا، وسيحاول هذا الائتلاف ان يقوم بمهام جديدة في محاولة التفاهم مع ايران بإعطائها دوراً ملائماً لا يخل بالتوازن، كما سيحاول تحييد الخطر الذي قد ينجم عن عراق صدام حسين تكتيكياً مع البحث الدائم عن دور ملائم لعراق ما بعد صدام حسين. ولا شك ان الوصول الى تسوية بين اسرائيل وسورية تسمح بتوسيع الدور السوري في المنطقة هدف يلقى مزيداً من الاهتمام والاختيار. أما تفاصيل الامور ومراحلها وضبط ايقاعها فهو يدخل في اطار جدول الاعمال الامني وجدول الاعمال الديبلوماسي. لكن تبقى في الاول والآخر اولوية الوصول الى توازن جديد يحقق المصالح بأقل كلفة ونفقة. ومن هذه الارضية وحول هذه الامور الجوهرية سيتم الحوار المقبل وستتحدد معالم السياسة الجديدة لاميركا في الشرق الاوسط. * سفير مصري سابق وخبير في شؤون الشرق الاوسط والعلاقات الدولية.