المشهد كأنه من حفلة باليه شارك فيها أبرز زعماء العالم، وقد أحاطوا بالرئىس جورج بوش، كما وصفه ديبلوماسي في الأممالمتحدة، فيما اعتبره بعضهم بداية تحول في طريقة إدارة الأزمة العالمية. وبالفعل فقد حدث تغيير جذري لطريقة تعامل المسؤولين الأميركيين مع ملف الحرب الافغانية وقياسهم لابعادها الدولية، بعدما تميز تعاملهم السابق ب"انفرادية وفوقية" كادت تقضي على التحالف الذي حاول وزير الخارجية كولن باول إقامته مع القوى المؤثرة في هذا الملف. ولعل المؤشر الأول لهذا التغيير كان شقه الإعلامي الموجه نحو الولاياتالمتحدة وبالتحديد نحو صانعي القرار، وتميز بابتعاد الإدارة الأميركية عن ضغوط الإعلام الأميركي الذي كان يسعى إلى توجيه دفة الحرب الإعلامية إلى مرام بعيدة جداً عن مستلزمات السياسة الأميركية وأهدافها البعيدة المدى، وهي أهداف تخدم مصالح مجموعات خاصة ولوبيات، وفي مقدمها اللوبي الإسرائيلي القوي النفوذ في مجلسي الشيوخ والنواب. وقد انصبت هذه الاتهامات على المملكة العربية السعودية ومصر وباكستان وبشكل أخف فرنسا التي انتقدت "تفرد طوني بلير بتبعية مسرحية قد تفيده على الصعيد الداخلي إعلامياً ولكنها تؤثر في صدقية سياسة أوروبية دولية موحدة". وفي حين انهمرت المقالات على الصحافة الأميركية والإنكليزية التي تشيد ب"متانة الحلف الأميركي-البريطاني" وب"الحليف الوثيق الوحيد الممثل بطوني بلير"، تفشت المقالات التي تنتقد مواقف البلدين العربيين. وأدركت الإدارة الأميركية خطورة هذا الانزلاق، فأصبحت نسبة كبيرة من تصريحات الناطقين الرسميين باسمها، في وزارة الخارجية وفي البيت الأبيض، مخصصة لتكذيب أخبار صادرة في الصحف الأميركية حول "شكاوى في الإدارة من عدم تعاون بعض الدول مع متطلبات التحالف الذي تتزعمه الولاياتالمتحدة أو تلكؤها في تلبية ما تطلبه الأممالمتحدة على صعيد ضبط الأموال التي تدعم الإرهاب". وبالطبع جاءت الدول العربية في طليعة الدول التي استهدفتها هذه الاتهامات التي غطت صفحات الصحف الأميركية. وبعدما تبين عدم جدوى سلسلة التكذيبات التي صدرت عن الإدارة ، صدرت تسريبات "موثقة" من أن الرئيس بوش "هدد جميع العاملين بإدارته بالطرد في حال تبين أن أحدهم قام بانتقاد كل من مصر والسعودية". ولوحظ بعد ذلك تراجع حدة تصريحات وزير الدفاع رامسفيلد الذي وصفه سفير اوروبي بأنه "فتح دكاناً سياسياً على حسابه وحساب ديك تشيني نائب الرئيس!". لقد أدركت واشنطن أن أزمة عالمية مثل التي يمر العالم بها حالياً لا يمكن أن تعالج من خلال منظور ضيق لمصالح إقليمية قريبة المدى، يمكنها أن تترك آثاراً على العالم لعقود طويلة، لذلك بدأت تتقرب من التوجهات "الشاملة" لمعالجة أزمة "شاملة" Global solution for major criseالتي طالما رددها كولن باول منذ وصول الفريق الرئاسي إلى البيت الأبيض، والتي تناقض مفهوم هنري كيسنجر السائد في الأوساط السياسية في واشنطن وفحواه انه يمكن "التصدي" لأزمة كبيرة بمجموعة أزمات محلية موجودة أو يتم خلقها "لمحاصرة وتنفيس" الأزمة الكبرى. ومن خلال التوجه الجديد يبدو أن الإدارة الأميركية تسعى لسماع وجهة نظر تلك الدول التي كانت تحاول الحملة الصحافية تشويه سمعتها لزجها في أتون معركة محاربة الإرهاب وكسر علاقات واشنطن معها. فقد أدركت هذه الأخيرة أن مصر والسعودية يشكل كل منهما، على حد قول موظف كبير في وزارة الخارجية "الدولة - المفتاح" التي لا يمكن تجاوز دورها في معالجة كل ما يتعلق بالإسلام والشؤون العربية خصوصاً القضية الفلسطينية. ويتابع الموظف الكبير قائلاً: "بالنسبة الى الصحافة الأنكلو - ساكسونية تطغى على علاقات واشنطن بالسعودية دائماً رائحة النفط، لكن هذه الصحافة تتجاهل العديد من العوامل التي تعطي المملكة دوراً مهماً في توطيد الأمن ليس إقليمياً فقط ولكن على صعيد أوسع". وكذلك الأمر بالنسبة الى مصر التي تشدد الصحافة الأميركية على المساعدة المالية السنوية التي تقدمها الولاياتالمتحدة لها. ويتساءل سفير أوروبي سابق في الشرق الأوسط، في خضم تحليله للهجمة الصحافية على البلدين العربيين: "هل يمكن تصور، ولو للحظة واحدة، ان الحرب العالمية على الإرهاب التي أقرها المجتمع الدولي والتي توافق عليها معظم الدول الإسلامية والعربية، كان يمكن لها أن تنطلق من دون موافقة الدولتين الأساسيتين في الشرق الأوسط وفي العالم الإسلامي؟". إن التلويح بالاتهامات ونشرها جزافاً حول "جذور الأصولية الإسلامية" أو "مصادر تمويل المتشددين الإسلاميين" في ما يخص دول الخليج بشكل عام، أو التشكيك بالنظام المصري و"ديموقراطيته" هدفه مواقف هذه الدول بالنسبة الى حل عادل للقضية الفلسطينية. وهذه القضية، هي، كما أشار إليها أكثر من مسؤول سعودي، محرك هذه الحملة الإعلامية. حتى ولو كانت نتيجة هذه الحملة انزلاق النزاع الدائر في هضاب أفغانستان إلى هاوية صراع حضارات تعرف بدايته ولا تعرف نهايته. ويتفق الجميع على أن أوروبا وفي مقدمها فرنسا تدعم بشكل كثيف إعطاء دور فعال لتحرك كل من مصر والسعودية في الأزمة الحالية لما في ذلك من "ضمان" لأن تظل العملية الأميركية - البريطانية في حدود ما اتفق عليه المجتمع الدولي، وللحد من تفرد واشنطن في اتخاذ القرار. ويبدو أن الإدارة الأميركية على رغم التصريحات التي تتكلم عن "حرب قد تدوم شهوراً" اتخذت قرارها بانهاء الحرب على الأرض أي الحرب القتالية بأسرع وقت ممكن. ولا يبدو أن عامل إطلال شهر رمضان المبارك، ولا حتى اقتراب موسم الثلوج هما اللذان يدفعان بهذا الاتجاه ، بل ان الاستشارات التي قام بها الرئيس بوش، أقنعته بضرورة الانتهاء بسرعة من صور المعركة بين تكنولوجيا أقوى دولة وبين تخلف أفقر دولة. فالحرب بدأت بإفراز مناهضين لها لا يقتصرون على شوارع المدن الباكستانية بل بدأوا يطالون الرأي العام العالمي، الغربي منه قبل الإسلامي. فصورة التناقض بين واقع أفغانستان وما يشاهده الرأي العام على شاشات التلفزيون وبين حقيقة التكنولوجيا المدمرة التي تتناقلها المحطات الفضائية، بدأت تطغى على الإجماع العالمي على الانتهاء من الإرهاب والاقتصاص ممن قام او قاموا بعمليتي نيويوركوواشنطن من دون ان يتراجع الاجماع على ضرورة الانتهاء من تنظيم "القاعدة" ومن يقف وراءه. ويبدو أن القرار قد حسم بهذا الاتجاه. لكن يبقى السؤال كيف يمكن القضاء على تنظيم ابن لادن من دون الوقوع في مستنقعات حرب برية يمكنها أن تأخذ سنوات وتوقع خسائر جسيمة بين المدنيين الأفغان خصوصاً أنه بات معروفاً أن المتشددين من "طالبان" والحلقة المقاتلة القريبة من زعيم "القاعدة" قد لجأوا إلى مغاور وكهوف يصعب الوصول إليها في شرق أفغانستان وجنوبها. وحتى قادة التنظيمات المعارضة لنظام "طالبان" يؤكدون أن القضاء على كل الجيوب في الكهوف والممرات تحت الأرض التي تكثر في منطقتي باكتيا وشمال قندهار قد تأخذ سنوات، وتتطلب آلاف الرجال المدربين. فلا يكفي استعمال القنابل من نوع "GBU-27" و"GBU-37"التي تملكها القوات الأميركية والمخصصة لتدمير الملاجئ والمعروفة باسم "قاتلة الملاجئ" Bunker Busters والتي يبلغ ثمن الواحدة منها مليوناً ونصف مليون دولار، للقضاء على مئات المقاتلين الموجودين في الممرات والمخابئ في أعماق الجبال. وكما يقول متخصص أميركي في شؤون الهندسة العسكرية فإنه "حتى ولو تم قصف المعسكرات فيجب بعد ذلك إرسال الجنود لتطهير هذه الأماكن... جيباً بعد جيب". وقد درست السلطات الأميركية العسكرية هذه المسألة منذ 1998 وقامت بتدريب فرقة خاصة من المارينز على النزول إلى المغاور وتطهيرها. وقد استعانت بخبرة مخضرمين من ""شيو تشي" التي عملت في فيتنام وكانت متخصصة بالنزول إلى كهوف "شيو تشي" في شمال سايغون لمطاردة الفيتكونغ. ولكن الدراسات كافة توصلت إلى أنه لا يمكن الانتهاء من عملية كهذة بأقل من سنة من الحرب على الأرض. ويقول الكولونيل الروسي السابق يوري بيك الذي خدم في افغانستان وكانت مهمته استكشاف الكهوف والمغاور للإشارة إلى الطيران الروسي لقصفها ان الدخول إلى هذه الشبكة مثل الدخول إلى جهنم. كنا نكتفي بقصف مداخلها وسدها فقط. ويؤكد جاك بالان المتخصص في جيولوجيا آسيا الوسطى إن عدد المغاور في أفغانستان غير معروف وهي موجودة أساساً في شمال شرقي أفغانستان على حدود مقاطعتي باكتيا وبغمان وكذلك في شمال قندهار. وأن الممرات الأرضية التي كانت سابقاً تستعمل لجر المياه الى السهول، متشابكة ومعقدة للغاية، وتوجد على مساحة آلاف الكيلومترات مخارج بشكل آبار مياه كل 500 متر تقريباً بعضها سدت فوهتها القوات الروسية. ويتبين أن الخطة الأميركية الأولى التي كانت تقضي بمحاصرة مقاتلي "طالبان" و"القاعدة" في مناطق المغاور وإبعاد المعارك عن المناطق السكنية أو ما يسمى ب"أفغانستان المفيدة" وتكملة حربها بعيداً عن المناطق المأهولة، باتت غير نافعة في ضوء المعلومات الجديدة التي قدمتها الجبهة الشمالية، وقوات كوماندوس متفرقة أرسلت منذ أسابيع إلى ما وراء خطوط القتال في أعماق الجبال. وتبين أيضاً أنه يصعب إخراج المقاتلين الذين يستطيعون التنقل عبر كيلومترات من الأنفاق تحت الأرض وحصرهم، مما يحتم القيام بعمليات عسكرية على الأرض طويلة المدى، وهو ما تسعى واشنطن لتجنبه والانتهاء بسرعة من مرحلة الحرب العسكرية لتلتفت الى حروب على الإرهاب بأشكال أخرى. وتتناقل أوساط عسكرية اوروبية معلومات حول خطة جديدة وضعها الجيش الأميركي بحيث تتناسب مع متطلبات المرحلة السياسية، أي بلغة غير عسكرية خطة يمكنها أن تنهي الحملة العسكرية بسرعة كما تتطلبه المقتضيات السياسية. ونظراً الى خطورة ما يدور البحث فيه ولرد الفعل الذي يمكن أن يثيره تنفيذ هذه الخطة، فإن عدداً من المطلعين على تفاصيل هذه الخطة السرية يفضلون التكتم على أسمائهم ويرفضون تأكيد أقوالهم ويتكلمون في صيغة الاحتمال، لكنهم لا يترددون في الإشارة إلى "مؤشرات تدعم إمكانية تنفيذ بهذه العملية لدى القوات الأميركية". والواقع أن العديد من الخطوات التي تمت في الأيام القليلة الماضية على مختلف الجبهات الديبلوماسية والإعلامية يقود إلى دعم هذه المعلومات التي تسارعت وتيرة تداولها، والتي تشير إلى أن القوات الأميركية بصدد استعمال "قنابل نووية تكتيكية محدودة القوة" وهو ما يعرف بالقنبلة "النيترونية" للقضاء على المقاومين الموجودين في المغاور والكهوف في جبال أفغانستان. ومن الواضح أن قرار استعمال القنبلة النووية، بما يحمله من معان وإشارات تاريخية وحضارية، تبرر هذه الحركة الديبلوماسية الكثيفة التي تسعى لإشراك زعماء العالم في هذا القرار التاريخي. ويدعم هذه التحليلات التي يوردها اكثر من مصدر زيارة شيراك وبلير لواشنطن بعدما اجتمع القادة الأوروبيون في لندن بصورة مفاجئة. ويسمي المراقبون كل قمة يعقدها رؤساء كل من الولاياتالمتحدة وبريطانيا وفرنساب "ديركتوار" Directoire أي مجلس إدارة العالم، خصوصاً منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، وقد إلتأم هذا المجلس مرتين سابقاً قبل حرب الخليج الثانية، وقبل حرب الكوسوفو. وكذلك اجتمع بوش بكل من الرئيس الباكستاني برويز مشرف ورئيس وزراء الهند وإيرلندا والبرازيل والرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة وعدد من وزراء الخارجية بينهم وزيرا خارجية الكويت والمغرب، وكل هذا خلال أقل من اسبوع. ولم ينس الرئيس الأميركي أوروبا الشرقية التي سيوجه اليها خطاباً مباشراً عبر الأقمار الاصطناعية اثناء اجتماع زعمائها في فرصوفيا. ويفسر البعض "شمولية" هذه الحركة الديبلوماسية بالقرارات "الصعبة والتاريخية" التي يتحتم على الإدارة الأميركية اتخاذها في الأيام المقبلة. ولقد بدأت، قبل أيام، اخبار "الاخطار النووية" تشق أبواب الإعلام، وبدأ الحديث عن "الخطر النووي الباكستاني" في حال وقوعه في أيدي الإرهابيين او المتطرفين، وتعالت صيحات التحذير من "فقدان باكستان سلاحها النووي" في حال حصول اضطرابات وحرب أهلية. وفيما تحدثت مجلة "نيويوركر" عن "تدريب مجموعة أميركية إسرائيلية على عملية السيطرة على الترسانة النووية الباكستانية"، طمأنت جهات رسمية اميركية الجميع الى ان الأسلحة النووية "محفوظة وأن مهنية الجيش الباكستاني ليست موضع شك". لكن ما يشير إليه المتحدثون عن "الحل النيتروني" هو أن الحديث عن خطر نووي دخل الإعلام اليومي للرأي العام العالمي، ولم يعد هذا البعبع الذي يخيف بمجرد ذكره. وقد لعب الخوف الذي سببه "الأنثراكس" واتساع عدد المصابين به دوراً في تخفيف الصدمة من الرعب النووي. ويعدد بعض المحللين "إيجابيات" استعمال القنبلة النيترونية من نواح عدة: فمن وجهة نظر عسكرية تكتيكية فهي تقصر فترة الحرب بشكل حاسم، مع تقليل الخسائر البشرية لدى الجيش المهاجم. كما ان القنبلة النيترونية تصدر إشعاعات قاتلة محدودة لا تتجاوز كيلومترات محدودة، لكنها تزول بعد فترة وجيزة. ومن الناحية الإعلامية فهي لا تسبب تدميراً ساحقاً للمباني والصروح بما في ذلك غياب "فطيرة" الانفجار، تلك الصورة الرهيبة للقنبلة النووية في مخيلة الإنسان خصوصاً الرأي العام الغربي وعلى الأخص من خبرها وكان ضحيتها الأول الشعب الياباني حليف أميركا. ومن الناحية السياسية، خصوصاً باتجاه الرأي العام الإسلامي، فإن استعمال القنبلة النيترونية "لمعاقبة المسؤولين عن الإرهاب فقط والاقتصاص منهم من دون المساس بالشعب الأفغاني" يمكن أن يكون شعاراً قابلاً للتسويق، خصوصاً في حال الإعلان عن نهاية الحرب مباشرة بعد العملية الكبرى.